فنجان دموع ..!
“الحزن لا يتخيَّر الدمع ثياباً كي يُسمى في القواميس بُكاء .. الحزن فينا كائنٌ يَمشي على ساقين” .. الصادق الرضي ..!
قالت صحف الخرطوم – التي “عندها المِحَنْ” – إن شاباً ثلاثينياً قد شوهد في إحدى مقاهي بحري – قبل أيام – وهو يخاطب خطيبته قائلاً إن الفنجان الذي يحمله بين يديه تملؤه قطرات دموعه التي ظل يسكبها طوال الليل بسبب شجارٍ كان قد وقع بينهما. وإنه يقدمه دليلاً على حبه وإخلاصه. أما الفتاة فقد أخذت تبكي وتنتحب حتى لَوت أعناق الحاضرين، قبل أن تسكب دموعها – هي الأخرى – على ذات الفنجان ..!
صحافة الخرطوم – التي “عندها المِحَنْ” – لم تكتَفِ بغرابة الحادثة التي جعلت منها موضوعاً لخبر، بل مارست حقها الدستوري في الاستقصاء، فاستنطقت عامل المقهى “ن . م” الذي أكد للمحرر الهمام – بما لا يدع مجالاً للشك المعقول – أن مسألة الدموع والفنجان تلك هي إحدى فصول حكاية ظل المقهى ساحةً لها. فالخطيبان – بحسب إفادته – كثيراً ما يجلسان هناك لفترات طويلة، وكثيراً ما يتشاجران، قبل أن يصطلحا، ثم يعاودان الشجار .. وهكذا ..!
حسناً!. قد يقول قائل من نحن، ومن نكون، حتى نمارس إحدى عاداتنا الذميمة في إطلاق الأحكام على شابين راشدين، اختارا أن ينتهجا بعض الجنون المُفضي إلى مزيدٍ منه، في تصريف شئون وشجون علاقة خطبةٍ تنتظر اكتمال فصولها بزواجٍ يتحول فيه الهمس إلى شخير، ويتمدد فيه الملل على أريكة الشغف ..!
ومن ثمَّ: يأتي “حمودي” بكل أعباء انزلاقته الوجودية، من “البامبرز” إلى رسوم “الروضة” إلى تكلفة “اللنش بوكس” والذي منه. قبل أن يَشُدَّ من أزر شقاوته – ويزيد من وطأة “مُحاحاته” – قدوم “ألوية”، بكل مشاوير الذهاب بها إلى الطبيب، وبكل بكائها المتقطع آناء الليل وأطراف النهار. وقبل أن يتحول ذلك الفنجان – الذي فعل بدموع صاحبنا البَكَّاء ما لن يفعله سد النهضة بمياه نهر النيل – إلى استئناف دوره المقدس في حفظ بقايا قهوة صاحبتنا، توطئةً لفك رموزها على يد عرافةٍ ما، تَبثُّها صاحبة الفنجان شكوكها بشأن “حركات” زوجها، الذي بات لا يأبه إن هي تزينت له، أو اكتفت بقميص “الهزاز” إياه، المثقوب جانبه، وهي تترك شعرها منفوشاً كشيطان رجيم. لأنه – ببساطة – رب أسرة محدودة الدخل والحيلة، مُنهمكٌ على الدوام في ترقيع ثقوب الميزانية ومطاردة غلاء الأسعار ..!
لن نُطلق الأحكام إذاً. لكننا قد نمارس حقنا التاريخي في قراءة بعض الظواهر الآخذة في التَمدُّد. وحتى تفهم ما أعنيه دعني أذكرك بطرائق “المخطوبين” أيام حكم الإنقاذ. بعض عشاق عهد الإنقاذ كانوا يلتقون في الندوات الدينية، ويذهبون معاً إلى التلاوة، ويرفعون السبابة وهم يرددون معاً “الله أكبر”، كلما أكد لهم الرئيس “البشير” أنه لن يتنازل عن تطبيق الشريعة، وأن أمريكا كانت ولا تزال تحت حذائه. لكن معظم الآنسات في تلك الحكايات تحولن بمرور الوقت إلى زوجاتٍ أُوَلْ، بعد انتشار ظاهرة التعدد. فالناسُ على دين ملوكهم ..!
ولأن الناسَ على دين ملوكهم فما حكاية الدموع والفنجان تلك إلا ظاهرة تتماهى عبرها طرائق المحكومين – في فهم المعاني واجتراح المباني – مع طرائق حكامهم. خذ عندك مثلاً: السيدة “عائشة موسى السعيد”، عضو المجلس السيادي، زارت سجن النساء، قبل أيام – بالتزامن مع وقوع حكاية الدموع والفنجان – وعندما خرجت علينا بحصاد تلك الزيارة لم تحدثنا عن قراراتٍ حكوميةٍ عاجلة بشأن تطوير بيئة السجن وإصلاح أحوال المسجونات فيه، بل حدثتنا عن تغيير اسم “دار التائبات” الذي أطلقته الإنقاذ على ذلك السجن، واستبداله باسم “سجن النساء”. وأما لماذا فلأننا معشر النساء – بحسبها – تائبات بالفطرة ..!
لعلك الآن قد فهمت مقصدي!. لماذا يختزل العشاق البَكَّاءون – في عهد الحكم الانتقالي – مسألةً هائلةً كثبوت الإخلاص في حفنة دموع، ولماذا يقدمون فناجين الدموع و”قُصاصات الحواشي” عوضاً عن تقديم “الأفعال ذات الجدوى” التي تُحدِثُ التغيير المطلوب، في “جذر المُتون”، وفي “أصل القضايا” التي يخذلها جَوَر الأحكام، فيثور الغبار، ويندلع الشجار ..!
منى أبوزيد