المنطقتان بين حق تقرير المصير والحكم الذاتي
لماذ تبحث الثورية عن شريك بديل لدولة الجنوب لاستضافة المفاوضات
* انفضت مفاوضات السلام بين الحكومة والحركة الشعبية قطاع الشمال فصيل عبد العزيز آدم الحلو دون التوقيع على إعلان مبادئ آخر لحل النزاع في المنطقتين، بعد أن وضعت الحركة الشعبية صخرة كبيرة في مسار عربة التفاوض تمثلت الصخرة في المطالبة بفصل الدين عن الدولة وإقرار نظام علماني جهراً دون مواربة أو غبش، وفي حال رفض الحكومة تنفيذ هذا الشرط عليها الإقرار بحق تقرير المصير للمنطقتين كآخر علاج للمرض المستعصي، وطلبت الحكومة مهلة شهر لدراسة الورقة التي قدمتها الحركة الشعبية والرد عليها .
بهذا الانسداد في شرايين العملية التفاوضية، عاد الوفد الحكومي برسالة الجنرال الحلو لتقول الحكومة كلمتها وتختار ما بين دولة علمانية كاملة يتحقق فيها السلام أو التمسك بالشريعة الإسلامية، وبالتالي تباعد المسافة بينها والقوى التي تحمل السلاح، ليعود الجدل مجدداً في الساحة السياسية، كما حدث بعد ثورة أكتوبر ١٩٦٤، وبعد ثورة أبريل ١٩٨٥ وكلا الثورتين أجهضتهما الصراعات الحزبية التي أغرت العسكر لتحريك دباباتهم والاستيلاء على السلطة في البلاد بزعم أن البلاد تغرق في لجة صراع فوضوي !!
الحكومة الانتقالية بتكوينها الذي يطغى عليه اليسار مع بعض المساحيق التي تمثل منشقين عن الحزبين التاريخيين الأمة والاتحادي الديمقراطي، تسعى لغقامة نظام علماني يتم فيه إقصاء الدين عن الحياة العامة وإدماج السودان في منظومة الدول المرضي عنها غربياً وقد استدعت الحكومة الفكر الجمهوري من مرقده، وبعثت فيه الروح ووضعته كترياق لمحاربة الإسلام الحركي والقضاء على التيار الإسلامي في السودان، وهي رغبة تنسجم مع توجهات شركاء السودان الإقليميين ورعاة المشروع المناوئ للغسلام الحركي.
وعندما انعقد لقاء الدكتور عبد الله حمدوك مع عبد الواحد محمد نور في باريس ومع عبد العزيز آدم الحلو في جوبا ووضع هؤلاء القادة مطالبهم بإلغاء الشريعة الإسلامية علناً وبمرسوم رئاسي، مثلما أعلنت بمرسوم رئاسي من قبل الرئيس الأسبق جعفر نميري، لم يرفض حمدوك مبدأ إلغاء الشريعة، ولكنه قال إن مثل هذا القرار يصدر من الموتمر الدستوري المنتظر عقده في الفترة الانتقالية ليقرر المؤتمر في قضية الشريعة الإسلامية، وطالب حمدوك قوى الكفاح المسلح بأن تدخل المؤتمر الدستوري وبيدها مثل هذه المطالب.
وموقف حمدوك لا يعتبر رافضاً لإلغاء الشريعة، ولا مؤيداً لتطبيقها فما السبيل إلى إزاحة هذه الصخرة عن طريق السلام؟
أدلجة الصراع السياسي !!
* إذا ما وضعت الحكومة والقوى السياسية الشريعة الإسلامية كمطلوب يقرر في مصيرها المؤتمر الدستوري فإنها تفتح من الآن أبواب استقطاب ديني وصراع أيدلوجي من شأنه إجهاض المؤتمر نفسه، وتتخوف الحكومة من إثارة غضب التيارات الإسلامية وتوحيدها ضدها، وفتح أبواب العنف إن هي أقرت علمانية الدولة،
رغم سعيها الدؤوب لتغيير وجهة المجتمع، وعلمنة الحياة العامة، وقد عمدت الحكومة للحديث عن توقيعها اتفاقية التمييز ضد المرأة المعروفة اختصاراً بـ”سيداو”، وهي اتفاقية جدلية وقعت عليها بعض الدول العربية والإسلامية بشروطها وتحفظاتها الخاصة وتلك من القضايا التي أدرجت فقط في خضم الصراع السياسي بين الحكومة والحركة الشعبية التي حاولت مراراً تغطية وجهها عن المشاكل الحقيقية التي دفعت أبناء المنطقتين لحمل السلاح في وجه الحكومة المركزية، وهي قضايا ترتبط بالتهميش وقلة مردود إنتاج المنطقة رغم ضخامته من الثروة الحيوانية والإنتاج الزراعي، وأخيراً النفط الذي تقاصرت همة الحكومة في وصل طريق لربط المنطقة الشرقية من جبال النوبة بالمركز، وهي المنطقة الأغنى في السودان بالذهب والفاكهة والخضر والذرة والضأن والأبقار والماعز، بينما تم ربط قرى لا يقطنها إلا أفراد محدودين بالطرق الأسفلتية في السودان النيلي.
وعندما يتحدث أحد من أبناء تلك المنطقة عن الظلامات التي لحقت بها يتم إرهابه معنويا ً بدمغه بالعنصرية والجهوية لتبرير استدامة الظلم في البلاد، ومثل هذه القضايا لا علاقة لها بالشريعة الإسلامية ولا اتفاقية سيداو ولا صراع النخب المركزية.
حق تقرير المصير
*لم تعرف منطقة جبال النوبة من قبل مطالبة بحق تقرير المصير، إلا بعد توقيع الحكومة على اتفاقية السلام من الداخل عام ١٩٩٧ مع منشقين من الحركة الشعبية بقيادة محمد هارون كافي أبوراس، وذلك بمحاولة تماهي الحركة المنشقة مع المنشقين الجنوبيين بقيادة رياك مشار، ولكن الحكومة صدت الحديث عن حق تقرير المصير إلى الحديث عن استفتاء شعبي للمواطنيين لتخيرهم بشأن نظام الحكم الذي يريدون، ولكن في مفاوضات نيفاشا بعد إقرار الحكومة بحق الجنوبين في البقاء في السودان الموحد أو الذهاب لسبيلهم لتأسيس دولتهم المستقلة، طالبت الحركة الشعبية بحق تقرير المصير لجبال النوبة والنيل الأزرق، ولكن الجنوبيين كانوا يعتقدون أن مثل هذه المطالب قد تفسد عليهم ما حصلوا عليه من مغانم ومكاسب، وتفتقت عبقرية القس الأمريكي جون دانفورث عن ما يُعرف بالمشورة الشعبية، التي أجاد نائب رئيس الحركة الشعبية حينذاك جيمس واني إيقا توصيفها وهو شخصية مباشرة في تعبيرها عما في نفسها عندما قال أمام حشد من مواطني ومقاتلي الحركة الشعبية بمنطقة كاودة فبراير ٢٠٠٩(تركنا لكم جنا انفصال صغير اسمه المشورة الشعبية إن رعيتموه جيداً سيبلغ بكم الأهداف التي قاتل من أجلها أسلافكم في مواجهة الظالمين المستبدين ).
ورغم ضبابية مفهوم المشورة الشعبية وتعثرها في جبال النوبة بسبب الاختلاف حولها بين الشريكين المؤتمر الوطني حينذاك والحركة الشعبية، اندلعت الحرب، ومنذ اندلاعها اختار الجنرال الحلو التخلي برفق عن مشروع السودان الجديد الذي طرحه جون قرنق، وأخذ على عاتقه المضي نحو حق تقرير المصير، وهو يدرك جيداً أن أي إقليم من السودان سنحت له الفرصة للانفصال عن المركز لن يتوانى عن الانفصال، وكل الشعوب المقهورة عندما تتاح لها فرص مثل هذه لن تختار البقاء في كنف قاهرها وظالمها مهما كانت الظروف والاعتبارات.
وفي السنوات الأخيرة انكفا الجنرال الحلو على نفسه ونكص عن شعارات وأهداف الحركة الشعبية وبات مثل الخليفة المأمون في أخريات أيامه حينما أصبح مطية لأخواله الأتراك، والحلو جمع حوله القوميين النوبة الذين تربصوا بقومية الحركة الشعبية ودفعوا باتجاه (نوببة) الحركة بإقصاء مكوناتها القومية، فخسرت الحركة جناحها السياسي، وفقدت رمزية نضالية بوعي وإدراك ياسر عرمان، وشخصية سياسية وقائد في قيمة مالك عقار، وقبل الأشخاص تنكرت الحركة الشعبية لمواثيق تأسيسها القومية، ولكن هل كان للجنوب تأثيره على انقلاب الحركة على نفسها؟؟
بالنظر لواقع النضال الجنوبي من أجل حقوقه، نجد المقاتلين النوبة قد ساهموا بفراستهم وإقدامهم في بناء الحركة الشعبية، مثلما كان للنوبة الفضل في تأسيس القاعدة القتالية للجيش السوداني.
وأبناء النوبة في الحركة الأم قاتلوا المركز بشجاعة وإقدام، وعندما وقعت اتفاقية نيفاشا، وتم النص على انسحاب الفرقتين العاشرة والتاسعة جنوب حدود ١٩٥٦ شعر أبناء النوبة بالغضب وحكومة المركز تبعدهم برؤية قاصرة عن مناطقهم التي نشأوا فيها بدعوى تنفيذ بنود الاتفاقية.
وعندما تجددت الحرب وجدت دولة الجنوب نفسها أمام واقع جديد بمسؤوليتها الأخلاقية تجاه منسوبين لجيشها، وفي خضم الصراع الجنوبي الجنوبي والاستقطاب الذي حدث حاولت حكومة سلفاكير ميارديت إغواء الحركة الشعبية قطاع الشمال والاستفادة من بندقيتها وتوجيهها لصدور المقاتلين النوير فرفض مالك عقار وياسر عرمان ذلك، مما جعل البعض من حكومة سلفاكير يدفع باتجاه المفاصلة التي حدثت ويشجع الحلو على تبني الرؤية الانفصالية، وكعادة العقل المركزي الذي لا يحسن قراءة الواقع وقفت حكومة السودان السابقة مع الحلو الذي يتبنى أطروحة انفصالية وناهض التيار الوحدوي الذي طرح رؤية متماسكة بشأن الحكم الذاتي، وليس مستغرباً ذلك من حكومة المركز التي ظلت تاريخياً تقف مشجعة التيارات الانفصالية لحسابات خاطئة، ودونكم ما حدث في الفترة ما بعد توقيع اتفاقية نيفاشا وتشجيع القوميين المناوئين لوحدوية أولاد قرنق.
ولم يتعاف المركز السوداني وعقليته حتى اليوم من هذه الأمراض المهلكة، وبعد الثورة التي يقولون إنها ثورة وعي ومعرفة، نجد الحكومة تتهافت للقاء الحلو وتسعى لاسترضاء حركته والسعي لها وتثاقل الخطى نحو الجناح السياسي الآخر الممسك بوحدة السودان والرافض لحق تقرير المصير .
الحكم الذاتي !!
* يعتقد كثير من الناس بما في ذلك النخب الحاكمة، أن الحكم الذاتي هو رديف للانفصال، ويعتبر خطوة أخيرة قبل انفصال الإقليم الذي يمنح مثل هذا الحق، وهو منطق معتل تحركه الظنون أكثر منها حقائق، فالحكم الذاتي درجة من درجات الحكم اللامركزي أو الحكم الفيدرالي، ولو أبصر القادة الأوائل من السودانيين الذين حملوا رايات مناهضة الاستعمار وأصغى قادة الأحزاب لمطالب الجنوبيين بإقرار النظام الفيدرالي لما تصاعدت الحرب الأهلية وقادت في نهاية المطاف لانفصال الجنوب بأغلبية أصوات مواطنيه.
ومن غرائب وعجائب السياسة في السودان وقوف الحكومة المركزية مع دعاة حق تقرير المصير والسعى لتقوية مواقفهم والاعتراف بهم كممثلين للمنطقة والنأي عن التفاوض مع دعاة الحكم الذاتي الذي يعني قدراً من الاستقلالية عن الحكومة المركزية.
ولكن إذا كانت قضية الحكم الذاتي تمثل الحل أثناء التفاوض بين الحكومة والحركة الشعبية قبل ثلاثة أعوام من الآن، فإنها اليوم لا تمثل انشغالاً للمتمردين في الحاضر.
تجاوزت الحركة الشعبية بقيادة عبد العزيز الحلو الحكم الذاتي، ووضعت اشتراط إلغاء الشريعة الإسلامية ثمناً لوحدة السودان، ومن غير تنفيذ هذا الشرط على الحكومة الإقرار بحق تقرير المصير للمنطقتين، وربما طالب عبد الواحد محمد نور بذات المطلب، والآن الحكومة تدرس خياراتها وتُمحّص ردها.
البحث عن وسيط أم مضيف؟؟
* أخيراً اكتشف الفرقاء السودانيون حاجتهم لثامبو أمبيكي القديم أو ثامبو أمبيكي جديد مفوضاً من قِبَل الاتحاد الأفريقي لمساعدتهم في المفاوضات التي رفعت حتى الثاني والعشرين من الشهر القادم، وهي فترة قصيرة جدًا
لكن السؤال الذي يطرح نفسه أين هو الرئيس الجنوب أفريقي الأسبق ثامبو أمبيكي والآلية الأفريقية رفيعة المستوى التي لديها تفويض من الاتحاد الأفريقي ومجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة للوساطة بين أطراف النزاع في السودان؟ هل تم إلغاء التفويض الذي بيد تلك الآلية أم انتهى التفويض بسقوط النظام السابق؟ وهل الأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية والدولية تسقط تكليفاتها بسقوط الأنظمة؟ ولماذا اكتشف السودانيون مؤخراً جدًا أن المفاوضات التي تجري في جوبا تحتاج إلى إسناد دولي وإقليمي؟
وبهذا تتناسل الأسئلة، كيف قدّمت جوبا نفسها كوسيط بين الأطراف من غير حصولها على تفويض من الجهة التي تم تكليفها من قبل المجتمع الدولي بتلك المهمة؟ وهل توت قلواك الوسيط الجنوبي لم ينل مشروعية القيام بمهام ثامبو أمبيكي؟
وهل الوسيط السابق ثامبو أمبيكي يمكنه العودة مرة أخرى للمهمة التي فشل فيها لمدة ثماني سنوات؟
الحركات المسلحة وخاصة الجبهة الثورية اكتشفت حاجتها لوسيط مفوض من قبل الاتحاد الأفريقي ومجلس الأمن منذ وقت مبكر، ولكن الجبهة الثورية آثرت المُضي في التفاوض مع شريكها السياسي قوى الحرية والتغيير إلى حين العثور على دولة تنهض بالوساطة وتستضيف مفاوضات السلام من غير مشقة وقادرة على الإنفاق وتحمل تبعات المفاوضات مثل دولة قطر التي أنفقت أكثر من مليار دولار، وهي تستضيف الحركات المسلحة بالدوحة ولمدة عامين دون أن تمد يدها للعالم مطالبة بدعم المفاوضات، وتحملت قطر بنبل ومسؤولية إعادة إعمار دارفور بعد توقيع اتفاقية الدوحة، وحتى الآن تعتبر قطر هي أكبر مساهم في إعمار السودان بسبب استضافتها ومبادرتها حل النزاع في دارفور.
دولة جنوب السودان يمكنها تقديم حلول سياسية لمعرفتها بجذور النزاع، ولكنها لا تستطيع تقديم حلول لمشاكل السودانيين التنموية وهي دولة متلقية للمساعدات فكيف تساعد الآخرين؟
بحث قادة الجبهة الثورية عن مضيف للمفاوضات، وكانت اجتماعات الجبهة الثورية مع الحكومة المصرية الشهر الماضي منتظرًا منها تقديم حل لهذه المعضلة، وأبدى قادة الجبهة الثورية رغبة معلنة في استضافة دولة الأمارات العربية المتحدة للمفاوضات في أبوظبي، وهي دولة قادرة على القيام بما قامت به قطر من قبل وتستطيع حشد الدعم الدولي لصالح القضية السودانية. ويكفي الآن أنها مع المملكة العربية السعودية تقدم مساعدات كبيرة للسودان لتجاوز الأزمة المالية التي يعيشها، ولكن شيئاً ما عطّل هذا الاتجاه ربما لعبت قوى الحرية والتغيير دوراً في ذلك، لأن المكون الشيوعي والبعثي في هذا التحالف يبغض الأمارات العربية المتحدة ويبغض السعودية دون أسباب موضوعية، ويسعى لإبعاد الدولتين عن الملف السوداني عطفاً على مواقف رئيس الوزراء عبد الله حمدوك القريبة من أثيوبيا والبعيدة عن مصر في النزاع حول سد النهضة الذي تم إنشاؤه عملاً بتقرير أعده خبراء كلفهم الرئيس الراحل ملس زناوي بمهمة وضع خطة لتنمية أثيوبيا، وكان من بين هؤلاء الخبراء الدكتور عبد الله حمدوك.
وفي حديث القيادي المنشق عن الحزب الشيوعي الحاج وراق وهو سياسي عميق الرؤية جزل العبارة حذر قوى الحرية والتغيير من مغبة تبعات الحديث غير المسؤول بحق دولة الإمارات العربية المتحدة والسعودية في الإعلام والمنابر، وإذا ما نجحت مساعي نقل المفاوضات من جوبا إلى عاصمة أخرى بعد تعيين الاتحاد الأفريقي لوسيط جديد أو إعادة التفويض السابق لأمبيكي، فإن فرصة حقيقية تلوح الآن لتحقيق السلام في السودان رغم بعض العثرات التي تواجه التفاوض.
لكن في حال نقل مفاوضات السلام بين الحكومة والجبهة الثورية من جوبا إلى مكان آخر، فإن ملف المنطقتين والتفاوض مع الحلو لن يبارح جبل لادو مهما قدمت له من المغريات، لأن النوبة أكثر وفاءً لأصدقائهم، وذلك من المعلوم بالضرورة، وجوبا هي صديق للحلو ولجبال النوبة في السراء والضراء.