الخروج من التاريخ

“آخر العناوین البریئة في بلادنا كانت قبل اختراع الصحافة” .. محمد حسن علوان ..!

في هذه المرحلة الانتقالية الفاصلة من تاريخ السودان، يضج المسرح السياسي بقرارات ومواقف لم تحظ كلها بمباركة الصحافة، التي يبدو أنها قد قررت أخيراً رفع الدعم الإعلامي عن القرار السياسي. ولذلك أقول: لعل أكثر ما تحتاجه هذه الحكومة – هذه الأيام – هو” محمد حسنين هيكل” سوداني، يتولى مهمة إقناع الشعب بجديتها في الإصلاح والبناء، أو بجدواها – من الأساس – إذا لزم “أو انفرط” الأمر..!

أما لماذا ھیكل الذي يرقد الآن بسلام بعد مشوار مھني طویل بدأ في مطلع الأربعینیات – “غطى خلاله أحداث الحرب العالمیة الثانیة، ومعركة العلمین، وحرب فلسطین، وعاصر ثمانیة رؤساء جمھوریة تعاقبوا على مصر، وظل خلالھا صحفي النظام وفارس الكلمة الإعلامیة بلا منازع”- فلأن العالم كله ما يزال يردد مصطلحات سیاسیة كثیرة أرساھا هو، بعد صبر على شرود المعاني وطول أناة في تطویع المفردات..!

وهو يقول هو عن تجربته مع كتابة خطاب تنحي الرئیس المصري الراحل جمال عبد الناصر “أرھقتني سطوره أكثر من أي شيء آخر كتبته من قبل، وظننت أنني حفظت العبارات والألفاظ من كثرة ما راجعتھا وغیرت فیھا وبدلت”. فاللغة بكل رحابتھا اللفظیة وثراء معانیھا كانت سلاحه المھني وكان هو درع نظامه السیاسي ..!

آخر تصریحاته المثیرة للجدل كانت جملته الشھیرة” إذا لم ننتبه للحظة سنخرج من التاریخ”، والتي ملأت مصر وشغلت إعلامھا، فقال الكاتب مفید فوزي إن فیھا شكلاً من أشكال المبالغة في التحذیر وأرجع السبب إلى أن “ھیكل” عنده قدرة ھائلة على الترتیبات اللفظیة، وصناعة الكلمة، بجمل منتقاة لھا إیقاعھا الداوي الذي یأسرك ویؤثر بك وإن اختلفت معھا..!

وقد كتب د. محمود خلیل تأصیلاً منھجیاً لدقة “ھیكل” اللفظیة وحذره المنھجي، جاء فيه “إن ھیكل كان محترفاً على كل المستویات: یتحدث باحترافیة، ویدیر حواراته باحترافیة، ویعیش باحترافیة، فعرف كیف یحافظ على لیاقته الصحیة والذھنیة لعقود طویلة كادت أن تكمل قرناً من الزمان. وھو كاتب یجید التخفى وراء اللغة. فاللغة التي ھي عند البشر العادیین أداة للإفشاء، ھي عند هيكل أداة للتخفي والمناورة” ..!

وقد كان ھیكل بارعاً في النحت اللغوي القادر على ستر أوضاع، وحقائق أوجاع، وھو الصحافي الوحید الذي یمتلك براءة اختراع كلمة “نكسة” في وصف ما حدث في یونیو” ١٩٦٧م”. حيث كان ألم المصریین عنیفاً، وإحساسھم بالسقوط مدویاً، فتمخض عقل “ھیكل” عن ھذه المفردة لوصف ما حدث، حتى لا تتعمق الجراحات باستخدام كلمة “ھزیمة”..!

فالإعلامي عند ھیكل ظاھرة لغویة قبل أي شيء، وھو یؤثر باللغة أكثر من أي أداة أخرى، حتى ولو كان تأثیره بإشاعة الخطأ، فقد أشاع ھیكل خطأً لغویاً ساد الخطابات الصحفیة والسیاسیة لمدة طویلة، ھو مصطلح “القوتان الأعظم”، خلافاً لصحیح اللغة “القوتان العظمیان”، وما أكثر ما تسكع ھذا الخطأ على ألسنة الساسة والإعلامیین طیلة فترة الستینات والسبعینات..!

إلى ھذه الدرجة بلغ تشبث شعب بأكمله بمفردات صحافي الأزمات وكاتب الأمة الذي كان “یسكن التاریخ أكثر مما یسكن الواقع”، والذي كان حاذقاً بدرجة كبیرة في تسكین الواقع في دوالیب التاریخ الذي ظل ھو یشكل جزءاً منه في مصر لعقود متوالیة ..!

فھل یغفل التاریخ بعض الحقائق السیاسیة التي تَخفَّى “ھیكل” وراء اللغة – طوال عقود من الزمان – لكي یخفیھا، أم یعید إنتاج ظھورھا يوماً في ثوب قشیب ..؟!

منى أبوزید

munaabu

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى