عمر بن عبد العزيز
ولد أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز بمصر عام إحدى وستين وقال الامام أحمد “ليس أحد من التابعين قوله حجة إلا عمر بن عبد العزيز” وأمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنها، فعمر رضى الله تعالى عنه جده من قبل أمه، وقد بويع له بالخلافة يوم مات سليمان بن عبد الملك بعهد له منه بذلك، وكان رضي الله عنه عفيفاً زاهداً ناسكاً عابداً مؤمناً تقياً صادقاً وهو أول من اتخذ دار الضيافة من الخلفاء وأول من فرض لأبناء السبيل وأزال ما كانت بني أمية تذكر به علياً على المنابر وجعل مكان ذلك قوله تعالى “إن الله يأمر بالعدل والإحسان” الآية.. وقال فيه كثير عزة:
ولييت لم تسب علياً ولم تخف مريباً ولم تقبل مقالة مجرم
وصدقت القول الفعال مع الذي أتيت فأمسى راضياً كل مسلم
وقد كتب إلى عماله أن لا يقيدوا مسجوناً بقيد فإنه يمنع من الصلاة وكتب إلى عامله بالبصرة من أرضأة: “عليك بأربع ليال من السنة فإن الله تبارك وتعالى يفرغ فيها الرحمة إفراغاً وهي أول ليلة من رجب وليلة النصف من شعبان وليلتي العيد” وكتب إلى عماله: “إذا دعتكم قدرتكم على الناس إلى ظلمهم فاذكروا قدرة الله عليكم ونفاد ما تأتون إليه وبقاء ما يأتي إليكم من العذاب بسببهم”، وذكر غير واحد عن محمد المروزي قال: “أخبرت أن عمر بن عبد العزيز لما دفن سليمان بن عبد الملك سمع للأرض هدة فقال: ماهذه؟ فقيل: مواكب الخلافة جاءت إليك يا أمير المؤمنين لتركبها فقال: “نحوها عني وقربوا إلي دابتي” فقربت إليه فركبها فجاء صاحب الشرطة ليسير بين يديه بالحربة جرياً على عادة الخلفاء قبله فقال له: “تنح عني إنما أنا رجل من المسلمين” ثم سار مختلطاً بين الناس حتى دخل المسجد فصعد المنبر فاجتمع الناس إليه فحمد الله وأثنى عليه وذكر النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: “أيها الناس إني ابتليت بهذا الأمر من غير رأي مني فيه ولا مشورة من المسلمين وإني قد خلت ما في أعناقكم من بيعتي فاختاروا لأنفسكم غيري”، فصاح المسلمون صيحة واحدة: “قد اخترناك يا أمير المؤمنين ورضيناك أميرنا باليمن والبركة”، ولما سكتوا وحّد الله تعالى وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: “أوصيكم بتقوى الله فإن تقوى الله خلف من كل شيء واعملوا لآخرتكم فإنه من عمل لآخرته كفاه الله أمر دنياه وآخرته وأصلحوا سرائركم يصلح الله علانيتكم وأكثروا ذكر الموت وأحسنوا له الاستعداد قبل أن ينزل بكم فإنه هادم اللذات وإني والله لا أعطي أحداً باطلاً ولا أمنع أحداً حقاً.. يا أيها الناس من أطاع الله وجبت طاعته ومن عصى الله فلا طاعة له أطيعوني ما أطعت الله فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم” ثم نزل ودخل دار الخلافة فأمر بالستور فهتكت والبساط فرفعت وأمر ببيع ذلك وإدخال أثمانه على بيت مال المسلمين ثم ذهب يتبوأ مقبلاً فأتاه ابنه عبد الملك فقال: “ما تريد تصنع يا أبتي؟” فقال: “أي بني أقبل” فقال: “تقبل ولا ترد المظالم؟” قال: “أي بني إني قد سهرت البارحة في أمر عمك سليمان فإذا صليت الظهر رددت المظالم” فقال: “يا أمير المؤمنين من أين لك أن تعيش إلى الظهر؟” فقال: “أدن مني يا أبتي” فدنا. فقبله بين عينيه وقال: “الحمد الله الذي أخرج من ظهري من يعينني على ديني” فخرج وأمر مناديه أن ينادي كل من له مظلمة.
وروى أنه وقع في زمانه غلاء عظيم فقدم إليه وفد من العرب فاختاروا رجلاً منهم لخطابه فقدم إليه وقال “يا أمير المؤمنين إنا ووقفنا إليك من ضرورة عظيمة وراحتنا في بيت المال وماله لا يخلو إما أن يكون لله أو لعباده أو لك فإن كان لله فالله غني عنه وإن كان لعباده فآتهم إياه وان كان لك فتصدق علينا فإن الله يجزي المتصدقين” فتغرغرت عينا عمر بالدموع وأمر بحوائجهم فقضيت فهم الإعرابي بالانصراف فقال عمر: “أيها الرجل كما أوصلت حوائج عباد الله فأوصل حاجتي وأرفع فاقتي إلى الله” فقال الإعرابي وإلهي أصنع بعمر بن عبد العزيز كصنيعه في عبادك” فما أتم كلامه حتى ارتفع غيم عظيم وأمطرت السماء مطراً كثيراً.
وكان عمر عبد العزيز قد شدد على أقاربه وانتزع كثيراً مما في أيديهم فتبرموا به وسموه ويروى أنه دعا بخادمه الذي سمه فقال له “ويحك ما حملك على أن سقيتني السم؟” قال: “ألف دينار أعطوني لها” قال: “هاتها” فجاء بها فأمر بطرحها في بيت المال وقال لخادمه “اخرج بحيث لا يراك أحد”.
قال مسلمة بن عبدالملك دخلت على أمير المؤمنين عمر أعوده في مرضه الذي مات فيه فاذا عليه قميص وسخ فقلت لفاطمة بنت عبد الملك “يا فاطمة أغسلي قميص أمير المؤمنين” فقالت “نفعل إن شاء الله تعالى” ثم عدت فإذا القميص على حاله فقلت “يا فاطمة ألم آمرك أن تغسلي قميص أمير المؤمنين فإن الناس يعودونه” فقالت “والله ما له قميص غيره”.
///////////////////
شيء من التراث العربي
استحسن الناس شعر صالح بن عبد القدوس عليه رحمة الله تعالى إذ يقول:
المرء يجمع والزمان يفرق ويظل يرقع والخطوب تمزق
ولأن يعادي عاقلاً خير له من أن يكون له صديق أحمق
فأربأ بنفسك أن تصادق أحمقاً إن الصديق على الصديق مصدق
وزن الكلام إذا نطقت فإنما يبدي عقول ذوي العقول المنطق
ما الناس إلا عاملان فعامل قد مات من عطش وآخر يغرق
والناس في طلب المعاش وإنما بالجد يرزق منهم من يرزق
لو يرزقون الناس حسب عقولهم ألفيت أكثر من ترى يتصدق
لكنه فضل المليك عليهم هذا عليه موسع ومضيق
وإذا امرؤ لسعته أفعى مرة تركته حين يجر يفرق حبلاً
بقي الذين إذا يقولوا يكذبوا ومضى الذين إذا يقولوا يصدقوا
ومن محاسن شعره:
اذا لم تستطع شيئاً فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع
ومن محاسن شعره أيضاً:
ما يبلغ الأعداء من جاهل ما يبلغ لجاهل من نفسه
والشيخ لا يترك أخلاقه حتى يوارى في ثرى رمسه
إذا ارعوى عاد إلى جهله كذي الضنى عاد إلى نكسه
ولكن البيت “والشيخ لا يترك أخلاقه… والبيت الذي يليه” هما كانا سبب قتله.. وذلك أن المهدي اتهمه بالزندقة وأمر بإحضاره فلما خاطبه أعجبه كلامه فخلى عنه ولما ولى رده إليه فقال له “ألست القائل والشيخ لا يترك أخلاقه؟” قال: “بلى يا أمير المؤمنين” قال “فأنت لا تترك أخلاقك” فأمر به فقتل وصلب على الجسر.