من معالم اجتهاد الصحابة الكرام
كان سلف هذه الأمة يعلمون أبناءهم حب الصحابة الكرام رضي الله عنهم، ويذكرون لهم فضائلهم ومحاسنهم، ويرشدونهم إلى القيام بحقهم في موالاتهم ومحبتهم ونصرتهم وذكرهم بالجميل.
وإن مما أجد الحاجة إلى ذكره والإشارة إليه أن الصحابة الكرام اجتهدوا بحضرة النبي عليه الصلاة والسلام وفي زمانه، وقد أذن لهم بذلك، وقد يسّر الله لي كتابة بحث بعنوان: التدريب على الاجتهاد وصحة الاستدلال في السنة النبوية ونشر بفضل الله تعالى البحث بعد تحكيمه علمياً بمجلة جامعة القرآن الكريم والعلوم الإسلامية ومما أنتقيه من البحث ما يلي:
إن الصحابة الكرام قد ظفروا بشرف عظيم حيث إنهم أفتوا وحكموا وقضوا بحضرة النبي عليه الصلاة والسلام، وفي عهده، وحظيت بعض اجتهاداتهم بإقرار وإعجاب من النبي عليه الصلاة والسلام.
قال الصنعاني: (ولما تعرض لمسألة اجتهاده صلى الله عليه وسلم تعرضنا لمسألة اجتهاد أصحابه في عصره بقولنا:
والاجتهاد واقع في حضـرته وغيرها من فائز بصحبته
البيت قد أفاد أنه قد وقع الاجتهاد من أصحابه في الأحكام الشرعية من الحاضر في بلدته صلى الله عليه وسلم بغير إذنه، ومن الغائب ومن الوالي وغيره، وهذا هو قول الجمهور من العلماء مستدلين بأنه لو لم يجز كما قيل لم يقع لكنه وقع فكان جائزًا وهذا دليل على الجواز والوقوع.
أما في حضرته بغير إذنه فاتفاقيات قضايا عمر وهي مشهورة معروفة وأقرها صلى الله عليه وسلم بل ونزل في كثير منها آيات محققة مقررة لما قاله، وهي قصص معروفة ومنه حديث أبي قتادة في يوم حنين واجتهاد أبي بكر وهي قصته معروفة، ومن ذلك تحكيمه صلى الله عليه وسلم لسعد بن معاذ في بني قريظة وكان في حضرته صلى الله عليه وسلم وإذنه.
وأما اجتهادهم في غير حضرته فقصة عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل وصلاته بأصحابه جنباً وأقره صلى الله عليه وسلم، والقضايا في ذلك واسعة، ومن ذلك قصة أمير المؤمنين علي؛ في اجتهاده في أهل الزبية وإقراره صلى الله عليه وسلم له ومن ذلك قوله وقد بعثه في قصة الحاضر يرى ما لا يرى الغائب، وبالجملة من عرف السنة والسيرة لا يتردد في ضرورة وقوع ذلك وإن من خالف فلا دليل له ناهض).
وقد كان الصحابة الكرام قد تحققوا بالفقه، وتعلموا على يد النبي الكريم عليه الصلاة والسلام، فكان تحقيق التدريب العملي للاجتهاد متمماً لهم النعمة ليكونوا أوائل المجتهدين في الأمة ويضعوا كثيراً من القواعد الشرعية.
قال ابن القيم: (فالصحابة مثلوا الوقائع بنظائرها وشبهوها بأمثالها وردوا بعضها إلى بعض في أحكامها وفتحوا للعلماء باب الاجتهاد ونهجوا لهم طريقه وبينوا لهم سبيله).
وقال الشيرازي: (اعلم أن أكثر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين صحبوه ولازموه كانوا فقهاء، وذلك أن طرق الفقه في حق الصحابة خطاب الله تعالى وخطاب رسوله صلى الله عليه وسلم وما عقل منهما، وأفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما عقل منها؛ فخطاب الله هو القرآن، وقد أنزل ذلك بلغتهم وعلى أسباب عرفوها وقصص كانوا فيها، فعرفوا مسطوره ومفهومه ومنصوصه ومعقوله، ولهذا قال أبو عبيدة في كتاب «المجاز»: (لم ننقل أن أحداً من الصحابة رجع في معرفة شيء من القرآن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) وخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغتهم يعرفون معناه ويفهمون منطوقه وفحواه وأفعاله التي فعلها من العبادات والمعاملات والسير والسياسات، وقد شاهدوا ذلك كله وعرفوه وتكرر عليهم وتبحروه).
فلما اجتمع للصحابة الجانب العلمي النظري والجانب التطبيقي العملي كانوا أئمة في الاجتهاد والفتوى والقضاء، يقول الجويني: (لم يخل أحد من علماء الصحابة من الاجتهاد في مسائل وإن لم ينقل عنهم الاجتهاد في مسألة واحدة فقد صح النقل المتواتر في مصير كل واحد منهم إلى أصل الاجتهاد في مسائل قضى فيها أو أفتى بها ثم أحداث قاعدة في الشريعة تستند إليها الأحكام بل يصدر عنها معظم الشريعة مما لا يجوز السكوت عليه لو لم يكن ثابتا).
وقد ظهر في زماننا رويبضات كثر يتكلمون في الصحابة الكرام وفقههم وفهمهم وعلمهم ، والجاهلون لأهل العلم أعداء ، ومن جهل شيئاً عاداه ، وإن حصيلة ما لدى هؤلاء هو التقليد الأعمى أو الجهل المركّب ، ويجب أن يعلم أن النيل من الصحابة الكرام مقصوده عند كثيرين من الواقعين فيهم إنما هو هدم الإسلام من جهة إسقاط النقلة ليسقط المنقول ، ولكن هيهات !! وفي المقابل وجب نشر مآثر الصحابة الكرام وفضائلهم وللحديث بقية في هذا الموضوع بتوفيق الله ..