> إن لم تخنِ الذاكرة، في أكثر من مرة، كانت هناك دعوات مُلحة وحادبة لتغيير كتابة نصوص ومحتوى خطابات السيد رئيس الجمهورية أمام البرلمان وفي المناسبات العامة التي تقتضي أن يُقدم خطاباً مكتوباً معداً بعناية، يستعرض فيه رأس الدولة الأوضاع في البلاد وراهن شؤونها ومستقبلها، ويعبِّر فيه عن موجهات السياسات العامة للدولة وبرامجها ومواقفها، ويعلن في الغالب قرارات مهمة يُراد إصدارها في توقيت محسوب، وتقديمها للرأي العام إيضاحاً للوازمها.
> تلاحظ بطول المتابعة ومقتضاها، أن صيغ الخطابات تكاد تكون متشابهة نصاً ولغةً وتبويباً، وهو ما درجت عليه الجهات التي تكلف بإعداد هذه الخطابات حيث تجنح الى استخدام لغة ديوانية تقريرية مباشرة وواضحة ذات مدلولات لفظية واصطلاحية محددة لا تحتمل التأويل والتفسير، وربما خالية من إشراق المعاني في كثير من الأحيان، وقد يكون هذا مفهوماً إلى حد ما، باعتبار أن الخطاب موجه للكافة والعامة وليس بالضرورة حشوه بالكثير من التفاصيل أو تحشيد محسنات الكلام بداخله حتى يبدو كقطعة أدبية جاذبة .
> تتشابه في دول كثيرة في عالمنا سواء أكانت دول متقدمة أم فضاء العالم الثالث، الطرق والأساليب التي تكتب بها خطابات وكلمات الرؤساء الرسمية، لكن برزت مناهج جديدة حديثة في شكل ومضمون الخطاب الرئاسي، حيث يكون أكثر تعبيراً عن واقع الحال وأكثر تدقيقاً في رسم المستقبل وبعث الآمال والتطلعات، بالترافق مع الحقائق الموضوعية ونوع المعلومات التي يجب أن تصل الى الرأي العام ويرتكز عليها الخطاب الموجه من أي رئيس الى شعبه.
> لنبدأ بقضية مهمة في خطابات الرئيس، وهي قيمتها المرجعية في ظرفها الزماني والمكاني وملمحها السياسي والفكري، فما يستفيده الناس وخاصة متابعي الشأن العام والمحللين لمضمون الخطابات هو رصد ما ورد في الخطابات من تقييم للأوضاع وكيفية إدارة الدولة ومتابعة شؤونها ومراحل التطور السياسي والسياقات التي ترد فيها المحاور والنقاط والموضوعات التي يشار إليها في أي خطاب، فما يجدر ذكره هنا أن جُل الخطابات الرسمية خلال الثلاث سنوات الماضية كانت تركز على إصلاح الدولة وهياكلها، والحوار الوطني والتوافق السياسي، ومعالجة المشكل الاقتصادي، وتقوية وبناء القوات المسلحة وردع الأعداء وتحقيق السلام ووقف الحرب، وما تم في العلاقات الخارجية وموجهات السياسة الخارجية .. وتكاد تتشابه الخطابات خلال هذه الفترة في هذه النقاط دون الانتقال إلى ما الذي تم بالفعل، أو تقديم متابعات من الخطاب اللاحق للسابق .. ما الذي تم وماذا أنجز .. وكيف؟.
> طبيعة الخطاب السياسي للسيد الرئيس البشير طوال سنوات حكمه، فيها الكثير من المضامين الجيدة والقيمة، وتظهر بوضوح المرتكزات الفكرية القوية التي ينطلق منها ويتمحور، وهذه الميزة بالطبع لابد أن تكون حاضرة في كل خطاب رسمي مكتوب، ويلاحظ هنا الفرق بين الخطاب العفوي التلقائي وأثره، والأثر الذي يرد في الخطاب المكتوب.
> فخلال السنوات الماضية اتجهت خطابات الرئيس إلى الموجهات السياسية التقليدية والقواعد العامة لإدارة نظام الدولة، وهو أمر محمود، لكن هناك خفوت في إضفاء المسحة المتعلقة بفكرة السياسة نفسها، أي منطلق وقاعدة هذه السياسات والتعبير عنها بقوة حتى تعطي الدولة شخصيتها واتجاهاتها في التفكير ومنهج العمل .
> مع أن نوعاً من التلطف السياسي والعقلانية الكاملة تتخذ سبيلها في هذا النوع من الخطابات الرئاسية بعمومياتها، فإن المتلقي وهو الرأي العام العريض بفعل وبسبب التفاعلات الاجتماعية والسياسية القوية التي يتأثر بها، تغير سلوكه إلى طلب المزيد من المعلومات المجردة والمعاني التجريدية، بجانب ملامسة شواغله اليومية بلغة تهرش جلده وتضغط على يديه وتثير اهتمامه الخاص وتبعث الآمال بشكل أكثر وضوحاً وبروزاً.
> من كل هذا .. لابد أن نتطلع إلى أسلوبية جديدة في خطابات الرئيس المكتوبة، قليل من لغة التقارير وكثير المعاني والإشراقات الفكرية والتعبيرية، مع البعد عن جمود العبارات، وتوليد واشتقاق مفردات ذات خصائص قريبة من الوجدان العام والعقل الجمعي، وتجديد لغة الخطاب وابتكار شكل بنيوي حديث، وصياغة المعلومات والبيانات وحشدها بشكل زاهٍـ ولافت، هناك الكثير مما يمكن قوله وكتابته وتقديمه للناس، يوجد منجز وعمل وآمال عراض، لكن هذه الآمال تحتاج إلى عرض معرض ..