يتّجه دون وعي وإدراك كثيرٌ من المحللين والمتحدثين في بعض قنواتنا الفضائية ونفر من كُتّاب الأعمدة الصحفية، إلى ابتسار الحقائق وتبسيط القضايا وتنميطها، والعمل على تبعيض الكُليَّات الفِكرية والسياسية وتجزئتها وربما تبخيسها، وتأخذهم عواطفهم بعيداً عن إعمال النظر الدقيق والعميق في حقائق السياسة السودانية وتطوّراتها، فيغرقون في تحليلات بائسة، مَهِيضة الأجنحة، باهتة اللون، لا تقف على ساقين، دون تصويب الحديث بمُعطيات واضحة إلى التحديات الحقيقية التي تُواجِه السودان والسودانيين، ودون الالتفات إلى أن معايير تقدير وتقويم الكسب السياسي ووضعه حيث ينبغي أن يُوضَع بحيثيات ووقائع ومعلومات مجردة.
دون أن يدري وينتبه العقلاء ويشمروا السواعد لما هو أصلح وأنقى وينفع الناس، ملأ الغث الساحة، وانتفش الريش الكذوب، وطفا على السطح زبَد كثيف، وتدحرجت السياسة إلى حضيضها، فأنتجت هذه التشوُّهات التي نراها اليوم.
ومن عبث الأيام بالسودان والسودانيين، أن الواجهة الآن فيها ما بها من تداعٍ وتراجع وتسفُّل وابتذال سياسي لم يشهده السودان من قبل، لم تَرتَق فيه الأحزابُ والتنظيمات من ذوات الضجيج الطبلي الأجوف، إلى مستوى المسؤولية الوطنية والرشد السياسي، فقد عجّلت هذه الأحزاب التي خدعها سراب السلطة الزائف بأوانِ حتفها الحتمي، وهي تسعى لجعل معركتها الرئيسة هي دين الأمة وعقيدتها وعاداتها وتقاليدها وصحيح معتقدها، فكل ما يدور في الساحة السياسية ويصدر عن الوزراء وبعض من تعلّقت أفئدتهم ببريق السلطان، هو محاولات فجّة وفيها نوع من التسطيح وتحت دعاوى باطلة لاستهداف القيم الدينية وما تواضَع عليه أهل السودان وما أنتجته تجاربهم الطويلة وتفاعُلاتهم مع الواقع وما أنتجوه من فِقهٍ وتعامُلات ومفاهيم استوعبت وواءمَت ما بين قواطع الدين وسعته وموجباته وتيسيراته.
ما نشهده ونسمعه من دعاة الحرية والتغيير وبعض مكوناتها من الأحياء السياسية الدقيقة، وهي تنمو مُتطفلّة على حساب غيرها، هو حربٌ ضروسٌ على الله ورسوله ودينه، يدفع فيها هؤلاء فواتير لازمة الدفع للدوائر الغربية المشبوهة التي صنعتهم والجهات التي موّلتهم والمحاضِن التي ترعرعوا في كنفها وأعدّتهم ليوم الكريهة، فتجربتنا تماثل تجربة العراق بعد صدام حسين، فعندما قادت الولايات المتحدة الأمريكية بآلة حربها المُدمّرة تدمير العراق واحتلاله ، ظهرت مجموعات سياسية من ربائب الغرب مَن استرضعوا أفكاره، ومن عملاء المخابرات وعَبَدة الدولار والشيطان، فسُرعان ما تسلّلوا إلى جسد الدولة، فَعُيّنوا في أخطر المواقع، وأورثوهم السلطة، وكانوا من حملة الجوازات الأجنبية والجنسيات الغربية كحالِ غالِب حكومتنا الحالية، فولاؤهم للدول التي يحملون جوازاتها وقسمهم للذي أعطاهم هوياتهم الجديدة، فهم خُدّام لأجندة من أعطى واشترط ورسم المسار..
حال المسؤولين الذين هبطوا إلينا من الخارج، هو حال عِراق ما بعد صدام حسين، وليبيا عقب القذافي، ما نراه هو مجموعات و(شلليات) أتوا بها لصياغة ــ لابد خاسرة وخائبة ــ وطننا وبلادنا، وهم أبعد الناس عن همومها وقضاياها وتحدياتها وأحلام البسطاء من أهلها، لا هم مِن أهل الكفاءة التي ظنها الناس، ولا من أفضل أهل العلم الذي يزين كل شيء، ولا من ذوي التجربة والنجاعة السياسية والإدارية التي ستقود بلادنا إلى مرفأ تطمئن فيه ويهدأ منها الروع .
أشباح وظلال هذا الواقع السياسي المُزري، لا تشير إلى ما فيه الخير لبلادنا، فمن يريد أن ينتج ويفرض قِيَماً وثقافة جديدة تندمج في القِيَم الغربية ويسلب من أمَّتِنا جوهر ثقافتها وتقاليدها وأخلاقها ويُحطّم سياجها الفِكري والقِيَمي، فإنه بلا شك سيحرث في البحر، ولن تكون عاقبته إلا البوار، فأمّتُنا عَصِيّة على التتبيع للقِيَم الغربية التي ينادون بها، ولن يسري في جسدها سم العلمانية الزعّاف الذي يُراد حقنُه في وريدها وشريانها، ولن تتحول صفائحها الدموية إلى بلازما مُلوّثة بصديد الفِكر الشيوعي ولا الجمهوري، فمهما انتفش الباطِل فهو إلى زوال، وقد جمع الله الخبث والخبائث جميعاً ليصدق فيها قوله وقوله الحق (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) .