مع عمسيب عن “الردم” والقهر السياسي (1)!!
باكراً سمعت كلمة الردم في ميدان كرة القدم، تحديداً عندما يتقدّم لاعب في الفريق المُنافس صوب المرمى مُهدِّداً له.. حينها تطلق الجماهير لفريقها نداءً جماعياً وبصورة هستيرية (أردمو… أردمو).. وهذا النداء التحريضي ليس صوب الكرة موضع التنافُس فحسب، بل صوب جَسد اللاعب كذلك حد التعطيل، الذي ربما يخرج به جراء “الردم” من الميدان للعلاج أو لمُغادرة كرة القدم نهائياً!
تم توطين المفردة في القاموس السياسي عبر الأسافير.. حيث الردم يتجاوز حدود التكالب الطبيعي لجمهور ضد كاتب أو فريق، بل إلى الفعل المصنوع عبر حملة منظمة تستهدف قهر المختلف سياسياً، وإخراجه من الميدان الأسفيري طلباً للسلامة وكذلك توجيه الرأي العام.
زميلنا الأستاذ عبد الرحمن عمسيب، وعبر إطلالته التنويرية عبر صفحته في الفيس بوك يقدم مساهمة جيدة في تحليل الظاهرة ذائعة الانتشار؛ وأسعد في (حال البلد) بوضع سطوره للنقاش طمعاً في تداول ما فيها من أفكار.
كتب عبد الرحمن عمسيب: (الحوار هو أكثر مفردة أفرغت من معناها وتم استهلاكها بحيث أنها لم تعد تخدم أيِّ غرضٍ، ونحن وعندما نتكلم عن الحوار عموماً والحوار السياسي بصورة أكثر دقة، فإنّنا نتحدّث عن عملية مُستمرة ويومية وليست إجرائية ومنقطعة كما نجحت الحكومات الشمولية المتعاقبة في ربطها بهذا التصور المغلوط.. وعندما نتكلّم عن الحوار السياسي فإنّنا بالضروة نتكلّم عن أطراف تحمل وجهات نظر متباينة وآراءً مُختلفة، إذن يكون من العبث أن تجري جماعات وفصائل تحمل نفس وجهات النظر أو تتفق في جل ما ذهبت إليه حواراً مع نفسها لتخرج بما هي متفقة عليه أصلاً).
من الصعب أن ينتج مجتمع تغيب عنه المشاركة السياسية وتقوم ثقافته السياسة على الأحادية والإقصاء وفوق ذلك يواجه أزمات اقتصادية حادة أشبه بالصدمات.. مناخاً لحوار سياسي راشد ومسؤول، ومع ذلك فإنّ طابع التغيير في وعي المجتمعات هو طابع جدلي – تفاعلي، بمعنى أننا بحاجة لخلق حالة رفض عامة للعنف اللفظي والعنصرية والتنمر، أو ما يتعارف على تسميته في المُجتمع السوداني مؤخراً “بالردم” لكبح جماح هذه الثقافة ومنعها من التمدد وشغل الحيز العام لما لها من آثار مدمرة على المجتمعات وعلى مفهوم الحرية نفسه.
هل نحن قادرون فعلاً على التأثير في المسار العام للنقاشات التي تدور في الوسائط الآن؟
صحيح أن الحوار مرتبط بالتنشئة والتربية وثقافة المجتمع، ولكن لا يمكن إغفال دور الحملات المنظمة في عمل معادلة على الأقل للتوجه العام الذي تغلب عليه ثقافة “الردم”، بمعنى أنها خطوة في طريق طويل لمخاطبة جذور المشكلة وتسليط الضوء على أهمية التعامل معها بجدية من كافة الأطراف، خصوصاً وأنها بلغت حدّاً دفع بالناس إلى مُغادرة سوح النقاش العام وخصوصاً على مواقع التواصل الإلكتروني، وفي الوقت الذي قام فيه حراك شعبي يرفع الحرية كأحد مطالبه، فإن مساحة الحرية وقدرة الفرد على التعبير عن رأيه إن كان مخالفاً للرأي السائد أو حتى غير مُتّفق كفاية مع ما هو سائد تكاد تنعدم، ووجهة النظر المختلفة هذه تُعرِّض صاحبها لعمليات اغتيال معنوي غير مسبوقة، اغتيال لا ينتهي حتى وإن كف هذا الفرد عن الإدلاء بآرائه أو المساهمة في المجال العام بل وحتى الخاص.
(نواصل)