تَنازَل حميدتي عن منصبه ولكن متى تتنازَل “قحت”؟؟
انسحبت الحركة الشعبية عن مفاوضات جوبا احتجاجاً على أحداث منطقة الورل بجنوب كردفان وعلقت التفاوض حتى تنفيذ شروطها التي وضعتها أمام الوسيط الجنوبي.
ويجهل السودانيون بعض ما يحدث في التخوم البعيدة ومن بينها أحداث منطقة خور الورل التي أصبحت الآن في مساقط الأضواء بسبب إعلان الحركة الشعبية وقف المفاوضات بسببها .
ما حقيقة ما جرى في منطقة الورل وأين تقع تلك المنطقة ؟ وما مستقبل التفاوض مع الحركة الشعبية بقيادة عبد العزيز الحلو؟ وماذا عن تنازل الفريق حميدتي عن كرسي الحكم الذي يشغله في المجلس السيادي من أجل السلام؟؟
وقعت أحداث الورل يم ١٥ أكتوبر الجاري، وخور الورل تقع جنوب شرق مدينة الدلنج وشمال شرق مدينة كادوقلي، وتعتبر معبراً لقبائل الحوازمة في رحلة الصيف والخريف. والمنطقة تعتبر من أغنى الأراضي الزراعية التي تتبع لقبيلة الغلفان إحدى بطون النوبة، وتسيطر على منطقة خور الورل قوات الجيش الشعبي بقيادة العميد كوكو الجاز، ويمتد وجود قوات الحركة الشعبية إلى مناطق أم حيطان والزليطاية، وبدأت الأحداث في هذه المنطقة كصراعات مهنية بين المزارعين وهم نوبة غلفان وبين الرعاة وبصفة خاصة دار نعيلة أولاد علي، وهم بطن صغير من قبيلة الحوازمة الكبيرة، وبسبب تعديات قام بها متفلتون من دارنعيلة على بعض بلدات وزراعة النوبة في العام الماضي وخرقهم تقاليد مرعية تم التواثق عليها منذ أزمنة طويلة، رفض النوبة عبور دار نعيلة أرضهم والسماح لبقية مكونات قبيلة الحوازمة بالعبور بالمرحال أو المسار الذي يمر بمناطقهم عقاباً لهم لتجاوزاتهم السابقة، وأبدت لجنة أمن الولاية في بادئ الأمر تأييدها لقرار قبيلة الغلفان، وقررت ترحيل دار نعيلة إلى مسار بديل، لكنهم رفضوا ذلك، واعتبروا القرار مجحفاً في حقهم ولا تسنده الأعراف السابقة، وبدأت التحشدات مع عودة الرحل من الشمال إلى الجنوب بعد أن نضبت المياه في كردفان الشمالية، وهي رحلة محفوفة بالخطر على الرعاة والمزارعين معاً.
وفي مناخ التحشدات، دفعت الحكومة المركزية بالفريق شمس الدين كباشي عضو مجلس السيادة الذي نجح في التفاوض مع الجميع وأصدر قراراً تراضت عليه الأطراف بعبور دار نعيلة بذات مسارهم القديم بعد موافقة الغلفان على أن تتولى القوات المسلحة حماية الرعاة ومراقبتهم بعدم التعدي على المزارعين النوبة حتى نهاية منطقة سيادة حكومة السودان، وانسحبت قوة الجيش بعد وصولها المنطقة التي تسيطر عليها الحركة الشعبية التي لها اتفاقيات مع الحوازمة غير معلنة تنظم الرعي وحمل السلاح ودفع الرسوم الإدارية في المناطق المحررة ــ أي التي تسيطر عليها الحركة الشعبية ـ وبعد عبور قطعان الرحل منطقة الورل تم اغتيال شيخ قرية الزليطاية في ظروف غامضة جداً، الاغتيال سبق الجلسة الأولى لمفاوضات السلام التي بدأت في جوبا بيومين كاملين، واغتيال الشيخ حدث ليلاً في منطقة تُسيطر عليها الحركة الشعبية ولها حراسات مشددة على بواباتها، ويعتقد البعض بأن الاغتيال بالطريقة التي تم بها وبسلاح ناري من مسافة قريبة يعزز الاعتقاد بأن الحادث بسبب صراعات داخلية لا علاقة لها بالغلفان ودار نعيلة المتهمين بالقتل.
ولكن الأحداث أخذت منحى أخر فقد اختطفت دار نعيلة شاباً من الغلفان كان يقود دراجة بخارية واقتياده لمنطقة مجهولة ونصب كمين آخر قُتل فيه شخصان.
ودفعت هذه الأحداث الحركة الشعبية لإصدار بيان بوقف التفاوض مع الحكومة قبل تنفيذ شروطها التي من بينها إعلان وقف إطلاق النار من قبل الحكومة المركزية والتحقيق العادل والشفاف عن أحداث خور الورل.
قرار البرهان
* بعد انسحاب الحركة الشعبية من المفاوضات قبل أن تعود يوم الخميس، أصدر الفريق عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة والقائد العام للقوات المسلحة قراراً بوقف إطلاق النار في كل أنحاء البلاد، وذلك لتهيئة المناخ لنجاح المفاوضات والحركة الشعبية لها خبرة طويلة جداً في استثمار مثل هذه الأحداث على أرض المعركة وتحويلها إلى مكاسب على طاولة المفاوضات وخبرة الحركة تمتد لأكثر من ثلاثين عاماً ودرجت الحركة الشعبية على الاستفادة القصوى من الخروقات التي تحدث لوقف إطلاق النار وتضع شروطها وتتم الاستجابة لها.
هناك دوماً جهة ثالثة مستفيدة من استدامة الصراع على الأرض، وهذه الجهة الثالثة قد تكون داخل حكومة السودان أو داخل الحركة الشعبية أو مكونات قبلية محلية لها مصالح ذاتية في إطالة أمد السلاح.
بعض العمارات في الخرطوم شيد أساسها بعظام الضحايا، وخلط الاسمنت بالدم، وهناك في العواصم القريبة والبعيدة من يسكن في فنادق ثمناً لأرواح الضحايا، وحتى في المحيط المحلي يوجد من يزرع بدموع الأرامل وينتج الذرة والسمسم منها، وبعضهم يملك الثروة الحيوانية الطائلة من النهب والسلب واستغلال أجواء الحرب لمصالح خاصة ووقوف الحرب عند البعض خسران مبين !!
وإذا لم يتحلّ المفاوضون بجوبا بالرغبة الأكيدة في تحقيق السلام ومعرفة أبعاد الصراع الذي تشجعه بطبيعة الحال جماعات وأحزاب فالمعارضة التي أصبحت اليوم حكومة، كانت أكبر المشجعين لاستمرار الحرب، والحكومة التي صارت اليوم معارضة، تقمّصت ذات الدور.
تنازل الفريق حميدتي
* في حديثه أمس الأول بمدينة جوبا، أعلن الفريق محمد حمدان دقلو عضو المجلس السيادي عن تنازله عن كرسيه في القيادة للأخ عبد العزيز آدم الحلو رئيس الحركة الشعبية من أجل تحقيق السلام في البلاد، وهي خطوة تعكس الرغبة الصادقة في طي ملف الحرب التي لا يعرف مرارتها إلا من تذوق طعمها ودفع ثمنها من رصيده الشخصي.
وكما يقول الفريق مالك عقار إير رئيس الحركة الشعبية الأخرى إن قصص الحرب وحكاياتها لذيذة جداً لمن لم يُحارب في الميدان ويفقد الرفاق.
والفريق محمد حمدان دقلو عضو المجلس السيادي أثبت بحصافته زهده في السلطة، وبعد تشكيل الحكومة المدنية لم تتم تسميته حتى الآن نائباً لرئيس المجلس العسكري، وهو الأحق به من أي كيان أو قيادي آخر بحكم تضحيات قواته الدعم السريع في التغيير وتحملها أعباء الأمن بعد سقوط النظام السابق في ظروف انفلات وفوضى، ولا يزال حميدتي هو الحارس الأول للديمقراطية والانتقال، وأي إقصاء له من شأنه وضع البلاد على حافة الهاوية، والآن يضع الحركة الشعبية أمام مسؤوليات كبيرة بإعلانه استعداد الحكومة تقديم أي تنازل ممكن بما في ذلك المناصب العليا في الدولة، وحميدتي يمضي نحو إحداث توافق بين القوى السياسية المدنية وقوى الكفاح المسلح، ولكن إذا كان المكون العسكري يؤكد حرصه الشديد على السلام، فإن قوى الحرية والتغيير مطالبة هي الأخرى إن كانت حريصة على تحقيق السلام في البلاد، التنازل المطلوب مجرد حفنة مقاعد ومقعدين أو ثلاثة في المجلس السيادي، والتنازل عن رئاسة المجلس السيادي في الدورة الثانية يحقق قدراً من مقاصد الاستقرار السياسي في بلد تتوق لوقف نزيف الدم أكثر من توقها للديمقراطية والحريات العامة، وقوى الحرية والتغيير عندما تتنازل عن مواقع في السلطة لم تبلغها بتفويض شعبي واختيار حر إنما تقدم عربوناً لتحقيق السلام الذي يمثل رافعة مهمة لقوى الحرية والتغيير في حال قيام الانتخابات في موعدها.
وإذا كان قرار الفريق البرهان قد منح الحركة حرية التنقل في الولاية دون شروط وقيود، فإن ذلك يساعد في انتشار قوات الحركة الشعبية من غير اتفاق ترتيبات أمنية وعسكرية.
استئناف التفاوض والمتغيرات
* أمس تم استئناف المفاوضات بين الحكومة والحركة الشعبية بوفد يقوده سياسياً الفريق محمد حمدان حميدتي، وفنياً تولى الفريق شمس الدين كباشي عضو مجلس السيادة رئاسة الوفد المفاوض بينما يقود وفد الحركة عمار أمون الأمين العام للحركة الشعبية لرسم اتفاق سياسي ينهي الحرب ويؤسس للسلام، وتعتبر قضية الهوية واحدة من القضايا التي يصعب تجاوزها ونعني بالهوية علاقة الدين بالدولة، وتطالب الحركة الشعبية بإلغاء الشريعة الإسلامية بمرسوم من رأس الدولة مثلما طبقت الشريعة بمرسوم جمهوري وإقرار نظام علماني يتم فيه فصل كامل للدين عن الدولة، وقد رفض رئيس الوزراء عبد الله حمدوك في لقاء بالحلو إلغاء الشريعة بقرار معتبراً مثل هذا القرار من سلطة المؤتمر الدستوري المنتظر عقده في الفترة الانتقالية الحالية والذي لا تشمل عضويته المؤتمر الوطني ولا الشعبي، ولا كل القوى التي كانت جزءاً من نظام الإنقاذ حتى سقوطه، وبالتالي لن يجد المؤتمر الدستوري مشقة ولا صعوبة في إلغاء الشريعة الإسلامية التي يعتبرها الحلو عقبة كؤوداً تحول دون توقيعه على أي اتفاق سلام وإذا ما رفضت الحكومة إلغاء الشريعة الإسلامية فان جبال النوبة يجب استفتاء أهلها من خلال إجراءات حق تقرير المصير التي قد تقود لانفصال كما حدث في جنوب السودان.
وهناك قضية أخرى تعتبر واحدة من القضايا التي رفضتها الحكومة السابقة وحالت دون الوصول لاتفاق وتتعلق باتفاق الترتيبات الأمنية والعسكرية وللحركة مطلب لن تتنازل عنه باحتفاظها بجيشها لمدة انتقالية قدرتها الحركة بعشرين عاماً، وهي فترة طويلة جداً، ويقدر عدد جيش الحركة الشعبية بنحو ٢٢ ألف مقاتل، حسب مصادر غير حكومية، وبنحو ٢٨ ألف مقاتل بتقديرات عبد العزيز أدم الحلو، ونحو ٦ آلاف مقاتل بتقديرات الحكومة السابقة، وبدأت الحكومة الحالية أكثر عافية وهي تعلن تجاوزها لمعضلة توصيل المساعدات الإنسانية من غير شروط ولا قيود.
وقد كانت قضية توصيل المساعدات الإنسانية من القضايا التي رفضتها الحكومة السابقة، وحالت دون الوصول لاتفاق سلام من خلال جولات التفاوض التي جرت، ولكن الحكومة الحالية أطلقت منذ وقت مبكر يد منظمات العون الإنساني للعمل في إغاثة المحتاجين دون قيود وبذلك لن تشكل هذه القضية عقبة كبيرة في الوصول لاتفاقية سلام بالمنطقتين.
دارفور في أجندة جوبا
* إذا كانت الجبهة الثورية تفاوض الحكومة على أساس حل النزاع في المطقتين والشرق ودارفور، فإن قضية دارفور في غياب حركة عبد الواحد محمد نور التي تمسك بمفاتيح معسكرات النازحين في الفاشر ونيالا وزالنجي، ويرفض محمد نور الاعتراف بالمجلس العسكري وكذلك يرفض الاعتراف بقوى الحرية والتغير، وقد حاول عبد الواحد فرض رؤيته على الجميع عندما التقى رئيس الوزراء عبد الله حمدوك في باريس وفرض عليه التنازل عن صفته الدستورية، وهو يقول بعد لقاء حمدوك في باريس إنه التقى الرجل ــ أي حمدوك ــ بصفته الشخصية وليس كرئيس وزراء، وبذلك يحذو حذو جون قرنق، فهل يعتبر السلام من غير حركة عبد الواحد ممكناً وهو الذي يستثمر في معسكرات النازحين ويمسك بها بينما تعتبر حركة العدل والمساواة أن فرصة تحقيق السلام في البلاد من خلال مفاوضات جوبا ممكنة لإقامة دولة العدل، واتسعت جولة التفاوض الحالية لتشمل قوى الكفاح المسلح الأخرى مثل حركة نمر عبد الرحمن التي تولى رئيسها الهادي إدريس زعامة الجبهة الثورية بكاملها وتحقيق السلام في دارفور سيضع قوى الحرية والتغيير أمام تحدٍّ كبير جداً، فالحركات المسلحة بدارفور لن ترضى بقسمة أقل من منحها إدارة الولايات الخمس بدارفور، وأن تخضع ولايات كردفان الثلاث للحركة الشعبية بقيادة الحلو وأن تدير الحركة الشعبية بقيادة مالك عقار ولايتي النيل الأزرق وسنار وبقية ولايات السودان يمكن أن تتقاسمها أحزاب قوى الحرية والتغيير، وبذلك تصبح القسمة بين قوى الكفاح المسلح وقوى الكفاح المدني عادلة، ولن يجد الفريق حميدتي صعوبة كبيرة في الاتفاق مع القوى المسلحة إذا ما تجردت عن الهوى.
أما الاتفاقيات المرتبطة بالتدابير الأمنية والعسكرية، فإن الإرادة السياسية الآن تعلو على الإرادة العسكرية، وقد كانت واحدة من أسباب فشل جولات التفاوض السابقة سطوة العسكريين على المفاوضين، وفرض إرادتهم، ولكن الآن تبدلت المعادلة، وأصبح السياسي هو من يقرر في مصير السلام وليس العسكريون كما كان سابقًا،
وإعادة هيكلة الجيش والشرطة والأمن تعني ان تصبح هذه القوات قومية في تكوينها وباستيعاب مقاتلي الحركة الشعبية يتحقق هذا المقصد الكبير والحركات السياسية والحركات المسلحة إذا تم استيعاب كل قوتها العسكرية فإن ذلك لن يخل بتكوين الجيش ولا الشرطة والأمن. ولكن بالطبع ما يحدث في جوبا الآن يحتاج لسند دولي ودعم عربي حتى يتم تنفيذ اتفاقية السلام التي يترقب الجميع توقيعها قبل انقضاء العام الجاري.
*وتعتبر قضية توصيل المساعدات الإنسانية من القضايا التي أدت لإجهاض جولات عديدة من المفاوضات في السنوات الماضية، وتقف الحركة الشعبية بقيادة الفريق مالك عقار على طرف نقيض من حركة الحلو، ويطالب عقار وعرمان بحكم ذاتي للمنطقتين في حال تمت الاستجابة لمطالب الحركة، أو لم تتم الاسجابة لها، وتعقد المفاوضات في طاولتين مختلفتين، الأولى مع الحلو، والثانية مع الجبهة الثورية، والسؤال الذي لا يجد إجابة من الحكومة، كيف تتم الاستجابة لمطالب المنطقتين إذا ما وقعت الحكومة اتفاقية مع الحلو وأخرى مع الجبهة الثورية؟ كيف يتم التنفيذ والتمثيل ولمن الأولوية؟
أم تُجمع الاتفاقيتان في اتفاقية واحدة؟ تلك من القضايا الشائكة الآن في جوبا التي ترعى المفاوصات مع شركاء من الاتحاد الأوروبي والدول العربية والولايات المتحدة الأمريكية.
دارفور في أجندة جوبا
* إذا كانت الجبهة الثورية تفاوض الحكومة على أساس وحدة الحركات المسلحة وتشابه قضايا دارفور والشرق وجبال النوبة، إلا أن قضية دارفور أكثر تعقيداً من قضايا المنطقتين لتداخل السياسي والإثني والإقليمي ووجود حركة موثرة جداً في الأوضاع خارج منظومة تحالف وقوى الحرية والتغيير، ويعتبر عبد الواحد محمد نور هو من يمسك بمفاتيح معسكرات النازحين في الفاشر ونيالا وزالنجي، ويرفض محمد نور الاعتراف بالمجلس العسكري وبقوى الحرية والتغيير وقد فرض شروطه عندما رفض مبدأ لقاء رئيس الوزراء عبد الله حمدوك بصفته الدستورية وجرده من كل صفاته، وقال إن اللقاء بصفة شخصية، وبطلب من حمدوك.
وإذا لم تجد حركة مثل حركة عبد الواحد قدماً لها في الحكومة الانتقالية، فإن الأوضاع بدارفور لن تتغير كثيرًا عما عليه الآن، ولكن سياسياً فإن التوصل لاتفاق مع حركتي تحرير السودان والعدل والمساواة ربما أدى لاستقرار نسبي للأوضاع، ويقول جبريل إبراهيم رئيس حركة العدل والمساواة إن فرصة تحقيق السلام من خلال جولة التفاوض الحالية كبيرة جداً.