(1)
ـ تأملت في وجه المدينة ذلك الصباح!! هل جوبا لا تزال بذات العنفوان والشموخ والكبرياء؟! هل لا يزال جبل الرجاف في مكانه والمندارى يعزفون موسيقى تثير الحماس؟! والتبوسا القادمون من كبويتا يتجملون باستطالة الشفاه!! جوبا في ذلك الصباح بدأت كعاصمة أفريقية بها شيء من الطراز العمراني لمدن جنجا وعنتبي بيوغندا.. وأكواخ الصفيح مثل مخلفات الصراع بين الوطنيين والبيض في هراري.. تحسينات كبيرة شهدها مطار مدينة جوبا.. صالة مغادرة متواضعة وصالة استقبال أكثر تواضعاً لكنها صالات نظيفة جداً.. العاملون والعاملات في مطار جوبا يبتسمون في وجه القادمين للمدينة..
ـ عند عبور حواجز تفتيش الحقائب وختم الدخول لا تميز جوبا بين الوطني والأجنبي في المعاملات.. ضابط الشرطة طلب مني التوجه إلى قسم الأجانب لتسجيل اسمي حتى لا أدفع غرامة مالية عند المغادرة تصل لمائة يورو.. رفضت ذلك باعتباري سودانياً جنوبياً بالهوى والعشق والانتماء لبور وملكال واطلع بره.. ودنقر شوفو.. وواو نار التي تنطق وأوماج بلغة الجور.. تحدثت مع الضابط بلغة الدينكا التي تعلمتها في سنوات الصبا.. مثلما تعلمت قليلاً من لغة النوير.. والكثير من لغات جبال النوبة.. ولغة البرقو الذين عشت معهم سنوات ما قبل التعليم المدرسي في مناقو.. كيف أسجل اسمي في دفاتر الأجانب بوطني الجنوب وأمنح بذلك الانفصاليين مشروعية الاعتراف بانقسام الوجدان السوداني ما بين الخرطوم وجوبا.. ضحك الضابط وأشعل سيجارة برنجي وقدم علبة أخرى هدية لا ترد ولكن سنوات التبغ قد انصرمت وبقيت ذكريات المدينة التي يسكنها الهدوء.. وتسكن موسيقى الجاز الكلاسيكية مفاصلها.. وحفلات “الترم ترم” التي كانت تميز جوبا عن كل مدن السودان تدغدغ المشاعر..
(2)
جوبا هي فرقة جاز الرجاف.. ومسرح حي الملكية الشهير الذي تغذى من إبداعات الأحياء المتربة الفقيرة ومن الفقر يخرج الإبداع كما يقولون، المدينة التي عشقتها بتفاصيلها وتضاريسها جبل لادو وضاحية كتور وفريق كتور جوبا وأسواقها التي غزاها التجار من النيل الأبيض ومن دارفور.. والصومال وأثيوبيا من اطلع بره إلى الملكية.. تأملت في الوجوه وتذكرت جوبا التي تركتها وتركتني.. سوق كستم وسوق تابنق كنجو كنجو ومكتبة موسى سايرين.. وتذكرت جامعة جوبا التي جعلتها الحرب مقراً عسكرياً.. للقوات المقاتلة وكيف زرع المجاهدون أشجار النيم وغرسوا محبة الناس جاء إلى المدينة حاج نور عليه رحمة الله.. وجاء د. أسامة توفيق ود. سليمان عبد الرحمن مرحب شقيق ميرغني عبد الرحمن الحاج سليمان القطب الاتحادي الذي من تلاميذه الأوفياء النجباء عضو مجلس السيادة الحالي محمد الفكي سليمان الذي ولد في أم روابة عروس النيم.. وكانت جوبا في النصف الأول من تسعينات القرن الماضي مدينة عصية على جون قرنق.. وصعبة المراس لأن كلمنت واني زعيم المنداري كان يقاتل بشراسة في شمال المدينة.. وتمتد قوته ومناطق نفوذه حتى سودان سفارى وميناء جميزة والكنيسة لول.. ويقترب من بور..
لا تذكر جوبا إلا وحضر السلطان “أندريا” في نمرة ثلاثة، ذلك الرجل الذي صنع اتفاقية أديس أبابا 1972م رغم أنه حارب الانفصاليين بقواته التي تعرف بالشركيلا.. جوبا هي معركة مطار جوبا والهجوم الذي تعرضت له المدينة في عام 1993م.. وكادت أن تسقط في أيادي التمرد.. المدينة التي تشكل نسيج وحدها.. تبدلت فيها أشياء.. اندثر فندق جوبا الشهير.. وجاء الشوام وشيدوا فندق كراون بالقرب من المطار.. مباني المجلس التنفيذي العالي التي شيدها جوزيف لاقو وأقام فيها أبيل ألير.. قد شاخت وهرمت.. ولكنها لا تزال تمد المدينة بنكهة السودان الموحد.. في أسواق جوبا.. كل شيء يأتي من وراء الحدود الطماطم والعجور.. والقرع من كمبالا.. الزيوت من الشمال وأجهزة الهاتف من دبي والصين.. والناس في مرح رغم الغلاء ورغم جشع التجار والخوف من المستقبل القادم واتفاقية السلام بين الحكومة ورياك مشار عصية على التطبيق..
(3)
في جوبا وجدت الرفيق والصديق عبد الله شول قد أصبح عسكرياً.. وانضم للشرطة وعلى كتفه مقص ونجمة.. اللواء عبد الله شول.. صديق سنوات الصبا في ملكال حينما دفعت بنا اللجنة السياسية التابعة لمجلس قيادة الثورة لتأسيس إذاعة ملكال.. وكان لي شرف أول من نطق بإشارة بدء البث “هنا ملكال إذاعة صوت السلام”.. عبد الله شول كان موظفاً متعاوناً في أمانة الحكومة بملكال ولكنه مثابر في تقديم المساعدة لنا في الإذاعة.. كان موظفاً مخلصاً مع الأمين العام لحكومة أعالي النيل فاروق جاتكوث كام الذي فرقته الأيام مع الرفاق وبقي في وطنه الكبير الخرطوم يقرأ من مفروش ما تجود به المطابع من الكتب.. وقد أصبحت جوبا تكتب بالعربية وتطبع بالعربية.. وتغني بالأمهرية وتسهر مع أغنيات حليمة اسو التي تجيد الغناء والرقص.. وقد تراجعت اللغة العدائية ضد الشماليين في الشوارع وما عادت جوبا تطلق على الشماليين اسم “مندكورات” الذي يعني الرجل المتسلط الانتهازي.. في فندق كروان جلست طويلاً مع أصدقاء مثل دينق ألور الذي تمتد علاقاتنا إلى عام 1997م عندما التقيته لأول مرة في أديس وقدمني إليه الراحل يوسف كوه مكي.. ومنذ ذلك أصبحنا أصدقاء وأحباباً لم تفرقنا حتى قضية أبيي ودعمي المعلن لأهلي المسيرية.. والدينكا يحفظون الود والعشرة النبيلة.. غادرت جوبا بعد أسبوع وفي العين دمعة وفي القلب لوعة على أمل العودة وتذكرت هنا الشاعر محمد حامد آدم وأغنية أروع نسيج..
شادن جوبا الآسر شذاك
وجه هوى الخرطوم جنوب
ريلا الفلا الراعي الأراك
مين علمك ترعي القلوب
من نفحتك جانا الدعاش
خلانا في عشقك نذوب
والروعة في اللاو الأنيق
قادل حداهو حجاب وتوب