كانت نسمات الفجر الأولى وقسماته تنبلج في مطار العاصمة الغامبية بانجول، ليس هناك طائرات تجثم على أرض المطار البسيط الصغير، إجراءات عادية تشبه مطاراتنا من حيث التساهُل في التعامُل والتجاوُزات غير ذات الجدوى من بعض الموظفين، ومنطقة العفش والحقائب تشعرك أن هناك سنة ضوئية يتقدم بها مطار الخرطوم على مطار بانجول، كل شيء صغير الحجم وقليل الحركة حتى أعداد المُستقبِلين أمام صالات المطار، كان هناك شخص واحد فقط يستقبل ضيوف الاجتماع المشترك بين الاتحاد الأفريقي والاتحاد الأوروبي ومنظمات المجتمع المدني في القارتين المُتجاوِرتين.
ذكّرتني الاجتماعات بكتاب البرلماني الألماني الأشهر (رودلف ديكر) عن (أوروبا وأفريقيا) الذي يتناول حتمية التعاون والعلاقة المثمرة بين بلدان أفريقيا وأوروبا، وهي علاقة مُركّبة قرّبتها الجغرافيا وأبعدتها النزعة والحِقب الاستعمارية، وتحاول تقريبها الآن مصالح متداخلة وربما مفاهيم جديدة للاستعمار نفسه وهو يُغلّف أنيابه الحادة بابتسامة مُزّيفة ناصعة الأسنان.
قد تكون غامبيا نفسها وليدة خلاف استعماري، فهي جيبٌ وشريط صغير داخل السنغال التي تلتف حولها من كل الجهات، إلا الجهة الغربية المُطلّة على المحيط الأطلسي، اقتَطَعتْ الاتفاقيات الاستعمارية (اتفاقية فرساي 1783)، هذا الجيب لصالح بريطانيا وخصّصته لها، بينما استأثرت فرنسا بكل أراضي السنغال، تبلغ مساحتها حوالي عشرة آلاف كيلومتر مربع، أي نصف مساحة مثلث حلايب السوداني، وتساوي مساحة لبنان، يخترق هذه المساحة نهر غامبيا الذي ينبع من غينيا ليصب في المحيط الأطلسي.لا يزيد عدد السكان عن مليوني نسمة، يتألفون من قبائل المالينقي والولوف والماندينغو والسوننكل والهوسا، وبعض القبائل الأخرى. كانت جزءاً في تاريخها القديم من أعرق مناطق الإمبراطوريات الإسلامية في الغرب الأفريقي، كانت تتبع للممالِك العظيمة مثل مملكة مالي الإسلامية وعاصمتها تمبكتو، ولعلّ ما يُميّز هذه الدولة الصغيرة أنها ألهمت أحد أهم الكتب التي تناولت تجارة الرقيق في التاريخ البشري، فقد كانت أهم مناطق صيد الرقيق وبيعهم في أوروبا وأمريكا، وكتب الكاتب الأمريكي الأسود إليكس هيلي روايته الذائعة الصيت (الجذور)، مُستلهِماً التاريخ الغامبي الضارِب الجذور، وما كان يحدُث في حوض نهر غامبيا وأسرار تجارة العبيد.
ونحن نتحرك من المطار إلى وسط العاصمة بانجول وجيش الظلام لم يتقَهْقَر بعد، ولا لمْلَم الليلُ وشاحه، تذّكرت بلادنا التي لم تخرُج من حلقتها الجهنمية بعد، ولم تُحقّق لها حتى مفاوضات جوبا التي بدأت قبل يومين مع الحركات المتمردة أحلامها في السلام لتنطلق إلى التنمية والديمقراطية والسلام.
الطرُقات خالية لا حواجز أمنية، ولا انتشار للشرطة، والنهضة العمرانية الشحيحة تلوح في البنايات المنخفضة والفنادق الصغيرة والشواطئ والمُنتجعات التي يتقاطر إليها الأوروبيون من كل مكان خاصة مع حلول فصل الشتاء القاسي في أوروبا. يشق سماء المدينة أذان الفجر يصدح بأصوات عذبة من كل المآذن في البلد الأفريقي الأصغر، ويشكل المسلمون 95% من نسبة السكان، وهي نسبة أعلى من السودان وبلدان مسلمة وعربية عديدة.
تتدفّق مشاعرُ الغامبيين بحُبٍّ متين وراسخ وقوي للسودان والسودانيين، العامِلُ الرئيس في هذه المشاعر الفيّاضة هي طريق الحج، ثم الطرق الصوفية والمذهب المالكي، والتواريخ المشتركة والنضالات ضد الاستعمار، ويمثل السودان لهذه البلدان الأفريقية نجمة ساطعة في السماء الأفريقية وتاريخ القارة لما قدّمه لحركات التحرّر وتاريخ المنافحة السياسية عن قضايا القارة السمراء.
ما يتميز به الغامبيون هو تمسّكهم بعقيدتهم ودينهم وتعظيمهم شعائرهم، فعند كل آذان تردد الآفاق صداه، ترتفع مكبرات الصوت بالقرآن الكريم إلى حين ميقات إقامة الصلوات، يستمتعون ويستعذبون أصوات المقرئين وحلاوة كلام الله رغم أن اللغة العربية ليست لغتهم الأم لكنهم يتعلّمونها ويهتمون بها لأن القرآن نزل بها، ويا للمفارقة بين دُعاة الحرية والتغيير في بلادنا من اليساريين وأحزاب الإفك والضلال التي تنادي جهرة دون استحياء بمنع مكبرات الصوت في المساجد وأن صوت الأذان ونقل الصلوات مزعج للمجتمع..!
يوجد عدد ضئيل من السودانيين هنا يعملون في منظمات أممية خاصة منظمة الدعوة الإسلامية والأمم المتحدة ومنظمات خليجية، ويوجد طبيب واحد، وأحد الشيوخ يعمل في تعليم الفقه والتعاليم الإسلامية، وهم محل تقدير واحترام المجتمع الغامبي، ولو استعملنا هذه القوة الناعمة في مد جسور التواصل مع البلدان الأفريقية لصار لنا نفوذ لا يُضاهَى…
هذا البلدُ الجميل بغاباته وشواطئه ومجتمعه وتعامُل أهله الطيب ومحبّتهم للسودان، وملامح الاستقرار والتطوّر السياسي والتنموي الذي تشهده بلادهم، سيجعل من غامبيا دُرّة أفريقية جديدة مثل رواندا في النهضة والعمران والتعايش السلمي وتجاوز عقبات الماضي… فهل نستفيد نحن من هذه الدروس الأفريقية المجانية…؟