لا شك ولا ريب أن صلاح الحاكم فيه الخير الكثير للمحكومين والرعية والبلاد والعباد، وذلك بما لديه من سلطة وقوة يستطيع بها إقامة العدل وتحقيقه ومحاربة الفساد والظلم وغير ذلك.
إلا أن هناك قواعد وسنناً كونية لا تتبدل ولا تتغير، والمؤسف أن كثيرين قد جهلوا تلك السنن الثابتة، ولم يعلموا بها، كما أن كثيرين ممن يعلموها لم يعملوا بمقتضاها. وقد رأيت حرص مجتمعنا على سماع الأخبار المفرحة من حاكمهم فرأيت أن أذكر نفسي والقراء بالسبب الأعظم والرئيس لنسمع في كل يوم ما يفرحنا ويسرنا ..
إن الرعية إذا استقاموا على شرع الله وطاعته فتح الله عليهم بركات من السماء والأرض ولأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ولأغدق الله لهم عيشهم وآمنهم من الخوف وهذا وعد من الله لا يخلف وآيات الكتاب العزيز والقصص التي قصَّ لنا فيها عبرة وعظة ..
فوجب على الشعوب إن أرادت ـ حقاً وصدقاً ـ أن تعيش الحياة الطيبة وأن تنعم بالأمن والرخاء والسعادة أن تجتهد في تحقيق الاستقامة على شرع الله تعالى، وأن تبتعد عن كل ما يخالف دين الله وصراطه المستقيم ومنهاج نبيه الكريم المبعوث رحمة للعالمين.
وفي المقابل فإن الرعية إذا أساءوا وأفسدوا وبغوا وسعوا في الأرض فساداً أصابهم الله بعقوبات بسبب ذلك، ومن ذلك أن يسلط عليهم ولاتهم فيسومونهم سوء العذاب.. وإن هذه قاعدة معلومة.. وأدلتها أوضح من أن تذكر (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس).
إن المخالفات لأحكام الله تعالى من أهم أسباب العقوبات، وكما أن العقوبات قد تكون بالأمراض أو الإغراق أو الزلازل أو غيرها، فإنها قد تكون كذلك بتسليط ولاة ظالمين يحكمون رعاياهم بالظلم، ويضيقون عليهم في دينهم أو دنياهم أو فيهما جميعاً. قال الله تعالى: (وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ).
في تفسير هذه الآية نقرأ في تفسير القرطبي ما يلي: (وهذا تهديد للظالم إن لم يمتنع من ظلمه سلط الله عليه ظالماً آخر. ويدخل في الآية جميع من يظلم نفسه أو يظلم الرعية، أو التاجر يظلم الناس في تجارته أو السارق وغيرهم. وقال فضيل بن عياض: إذا رأيت ظالماً ينتقم من ظالم فقف، وانظر فيه متعجباً. وقال ابن عباس: إذا رضي الله عن قوم ولى أمرهم خيارهم، وإذا سخط الله على قوم ولى أمرهم شرارهم…) أ.هـ.
وفي تفسير السعدي نقرأ: (كذلك من سنتنا (أي سنة الله تعالى) أن نولي كل ظالم ظالماً مثله، يؤزه إلى الشر ويحثه عليه ، ويزهده في الخير وينفره عنه، وذلك من عقوبات الله العظيمة الشنيع أثرها، البليغ خطرها. والذنبُ ذنبُ الظالم، فهو الذي أدخل الضرر على نفسه، وعلى نفسه جنى {وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ} ومن ذلك أن العباد إذا كثر ظلمهم وفسادهم، ومنْعهم الحقوق الواجبة ، ولَّي عليهم ظلمة، يسومونهم سوء العذاب، ويأخذون منهم بالظلم والجور أضعاف ما منعوا من حقوق الله، وحقوق عباده، على وجه غير مأجورين فيه ولا محتسبين. كما أن العباد إذا صلحوا واستقاموا، أصلح الله رعاتهم، وجعلهم أئمة عدل وإنصاف، لا ولاة ظلم واعتساف…) أ.هـ.
قال الله تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ). لا أظن أن هذه الآية وأمثالها مما يجهله الكثيرون!!!
فهل عقَل وعلم ـ من ينادي ويطالب بتغيير الأحوال ـ هذه القواعد وعرضها على ما يعيشه من واقع؟!
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليَبَسِ
وأفضل من ذلك قول أحكم الحاكمين سبحانه وتعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) وقوله جل وعلا: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ..).
هذا هو العلاج والدواء لمن أراد العلاج الصحيح، وكان صادقاً في نيته ودعواه وقوله، لتجتهد هذه الشعوب في تغيير الأنظمة المخالفة للشرع مما ارتضته لأنفسها في بيوتها وأسواقها ومعتقداتها ومواقفها، وفي تعاملها مع خالقها وتعاملها مع خلقه، ولتعمل بجد واجتهاد في تقليل المنكرات والبعد عن الفساد ولتستقيم على ما أمرها ربها وخالقها به وما سنه لها رسولها الكريم، ولتكثر من الاستغفار، ولتجتهد في التوبة النصوح الصادقة، فإن قاموا بذلك هيّأ الله تعالى لهم أسباب السعادة والتوفيق والحياة الطيبة وسخر لهم من يكون تحقيق ذلك على يديه، أما وهي على حالها وواقعها فليس لها إلا أن تغيِّر الأسماء فقط دون المعاني والمضامين والأحوال، والأمر كله عند الله سبحانه وتعالى وبيده, ومما يذكر أن رجلاً من الخوارج جاء إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقال له : يا علي ما بال الناس انتقدوا عليك ولم ينتقدوا على أبي بكر وعمر؟ فقال له علي رضي الله عنه: إن رجال أبي بكر وعمر كنت أنا وأمثالي، أما رجالي فكنت أنت وأمثالك!!.
ويذكر ـ أيضاً ـ أن أحد ملوك بني أمية سمع أن أناساً يتكلمون فيه وفي خلافته فجمع أشراف الناس ووجهاءهم وتكلم فيهم وقال لهم إنكم تريدون منا أن نكون مثل أبي بكر وعمر؟ قالوا: نعم أنت خليفة وهم خلفاء! قال: كونوا أنتم مثل رجال أبي بكر وعمر نكن نحن مثل أبي بكر وعمر!!.