“النضال المسلح لا يستوجب المشاركة في السلطة”، هكذا صرح القيادي القحتاوي محمد ناجي الأصم في يوليو الماضي ! وهو تصريح يبدو في ظاهره متيناً قوياً ذكياً لكنه في الحقيقة لا يتفق مع الواقع والوقائع إطلاقاً، فالمفاوضات التي انطلقت في جوبا، ومهما كانت أجنداتها وموضوعاتها فإنها لن تنجح ما لم تُناقش وتحسم ملف قسمة السلطة بالذات لأن الحركات المسلحة أعلنت من قبل أنها لن ترضى بغير فتح الوثيقة الدستورية وتعديلها بما يضمن مشاركة منسوبيها في كافة مستويات الحكم وبنسب مُحترمة !
صحيح أن السيدين البرهان حميدتي ذهبا إلى جوبا كدلالة حرص وعزم واهتمام ، والتقى حميدتي بالرئيس اليوغندي وهو شخصية قوية ذات كاريزما وتأثير، لكن الكرة تبقى في نصف ملعب الحكومة والتي وضعت السلام على رأس أولوياتها، والسؤال الحاكم: هل الحكومة مستعدة لدفع فاتورة السلام مهما كانت باهظةً؟ هل هي مستعدة للتضحية بحزمة من الوزراء الجدد وتوسيع مجلس السيادة وحجز نسبة معتبرة من الولاة وعضوية التشريعي الانتقالي للحركات؟
الجبهة الثورية طالبت – بحسب تسريبات منشورة – بأربعة مقاعد في مجلس السيادة مع زيادة عضويته إلى “15” ! وطالبت بتعيين أحد قادتها نائباً لرئيس مجلس الوزراء مع إخلاء عدد من الوزارات لهم ! وطالبت بإصدار قانون للمشورة الشعبية لسكان دارفور والمنطقتين لتحديد الوضع الإداري لهذه الأقاليم! وطالبت بإعادة النازحين إلى قراهم وتعويضهم مع تأخير إجراء الانتخابات في هذه الأقاليم لتُجرى بعد خمس سنوات من تاريخ التوقيع على الاتفاق!
الحركات طالبت أيضاً بتخصيص “40%” من الدخل القومي ولمدة عشر سنوات لتنمية الأقاليم المذكورة حتى تلحق بولايات الوسط والشمال “المتهمة ظلماً بالنماء والرفاه !” مع منح السلطة الكاملة بهذه الأقاليم لأبنائها والذين ترشحهم الحركات المسلحة أسوة بـ”قحت” في الشمال ! ويشمل ذلك الوظائف الحكومية من الدرجة الخامسة وحتى الأولى الممتازة مع تعديل شروط ومعايير تَولِّي هذه الوظائف بما يتناسب وظروف أبناء تلك الأقاليم ! هذه التفاصيل فيما يبدو لم تتسرب لوحدها بل تم تسريبها عمداً لكشف ملامح السقوفات !
الوصول لسلام شامل وكامل ومستدام ليس بالأمر السهل مهما صدقت النوايا , وللأسف فإن الحكومة تدخل للتفاوض وصورتها مهتزة وظهرها شبه مكشوف، حيث أن الأزمات الخانقة تكاد تُطبق على أنفاس مواطنيها ولا حلول حقيقية تلوح في الأفق! وبعض وزرائها مشغولون بقضايا انصرافية و”فوبيا” الدولة العميقة! وهذا كله خصم على الحكومة وهي تواجه حركات وقيادات احترفت المراوغة وليس لديها الكثير لتخسره في معركة التفاوض الجارية.
مع كل ذلك نتفاءل ونستبشر، سائلين الله أن يستصحب الفرقاء حال الوطن ومعاناة المواطن، ويستشعروا أن بلادهم بحاجة ماسة وعاجلة للسلام والاستقرار والالتفات الجاد لاستكمال مشروعات التنمية ومسيرة النهضة، ويُدركوا أن السلام مكسب للجميع ولا خاسر فيه أبداً.. الموارد الضخمة التي تُهدر قبل وأثناء وبعد الحروب والنزاعات، أوْلى بها مشاريع التنمية والبنيات والخدمات.
لله الأمر من قبل ومن بعد وهو على ما يشاء قدير .