من دمشق إلى بانجول
خرجنا تحت جُنح الليل يلفّنا وشاح الظلام مساء الأحد الماضي عن طريق البر، من دمشق إلى بيروت، انتصف الليل ونحن نودع العاصمة السورية الغارقة في جدالها السياسي والتدخل العسكري التركي في شمالها، والمواقف العربية المتأرجحة هل ستُعاد إلى الجامعة العربية أم لا، وهي العاصمة التي لم تُفارق ركبها منذ مؤتمر أنشاص المؤسس في أربعينيات القرن الماضي، الشوارع المضاءة في الأحياء الدمشقية القديمة وصدى قصائد خالدة لشاعر الرسول (صلى الله عليه وسلم) حسان بن ثابت والبحتري وأبي نواس وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم وخير الدين الزركلي وعمر أبو ريشة ومحمد المهدي الجواهري والياس فرحات، وإبراهيم اليازجي وخليل مردم، وخليل مطران، وسعيد عقل وأدونيس والماغوط، ونزار قباني ومحمود درويش، وصوت من مذياع السيارة في هدأة تلك الليلة للمغني صباح فخري يغني (يا مال الشام يا الله مالي، طال المطال يا حلوة تعالي)، ومن خلفنا المدينة الجريحة الصامدة تختفي وتختبئ وراء دموعها وستار الليل.
في تلك اللحظة من ساعات العتمة، كان مرافقي يحدّثني عن أيام المعارك التي كانت تدور داخل العاصمة وريفها، ومرت أطياف حزينة من تلك المعارك، ونحن نمُرُّ بلافتة لمنطقة الزبداني والقرى المتناثرة على الطريق الدولي إلى العاصمة اللبنانية، وكيف عادت الحياة إلى طبيعتها بعد نجاح الحكومة السورية في مواجهة المعارضة وداعش وغيرهما من التنظيمات المتطرفة.
ثمة حكايات في الطريق وأشعار ومواويل وأقاصيص وتواريخ لم تنتهِ، ونحن نرى تكدس السيارات والعابرين على مدخلي الحدود من الناحية السورية واللبنانية، حيث كان طيف دريد لحام والماغوط نفسه وفيلم الحدود يومئ برأس ووجه حزين، ما قالته الدراما كان وسيكون، لم تشفع له آهات فيروز في غنائها للشام وللبنان وللشمل العربي المُمزّق..
عندما عبرنا الحدود إلى لبنان والليل يرخي سدوله، ونسمات باردة من مزارع البقاع اللبناني تُذكّرني بنشرات الأخبار في الـ”بي بي سي” و”مونت كارلو” نهاية السبعينات ومطلع الثمانينات من القرن الماضي، والحرب اللبنانية على أشدها معارك في البقاع تنتقل إلى المخيمات الفلسطينية وشوارع بيروت وأزقتها ولم يكن الصوت الشعري يومها مبحوحاً ولا مخنوقاً..
عبرنا مسرعين إلى مطار بيروت في ساعات الفجر، والمدينة لم تزل تلفّها الحيرة، فلا عادت صِلاتها بدمشق كما كانت، ولا مدّت يداً لنجدتها بما يُكافئ ويُوازي، والفضاء والسماء السوري واللبناني لم ينقطع عنه هدير الطائرات ولا أزيزها ولا صوت الصواريخ وومضات القذائف وفحيح المؤامرة الدولية، لكنها بيروت تظل كما هي، تخضر رغم زحف القحط والصحراء والنزيف، وتبتهج في ليل العابسين، مقاهيها ومطاعمها وموسيقاها ولياليها الصاخبة تأبى أن تركن إلى السكون أو تنام..
من المطار حملتنا الخطوط المصرية إلى القاهرة، وما أدراك ما هي الآن، تتلفّت في واقع عربي مُثقل بآلام المخاض، كلما مرّ يوم زادت الشقة بين العرب، وشهدت قاهرة المعز ومقر الجامعة شقاقاً لا تندمل جروحه، وقد أُفلت الزمام، إذا قرأت الصحف والمجلات المصرية على كثرتها وشاهدت الفضائيات على وفرتها وضجيجها والإذاعات على غصص عبرتها، ستشتاق إلى القاهرة القديمة يوم كانت تضج بكل فن وأدب وقصيد وفكر ورواية وحديث.. وتلك حكايات أُخَر..
حملتنا طائرة الخطوط الملكية المغربية على رحلتها المتجهة إلى الدار البيضاء من مطار القاهرة، من على البحر الأبيض المتوسط جنوباً من نافذة الطائرة ملامح بعيدة ونائية وأضواء قَصيّة تتلامَع في حياء لشرق ليبيا ووسطها وغربها، البلد العربي المُمزّق بوحشية لا تُضاهى بسكاكين أبنائه من برقة إلى طرابلس وزوارة مروراً ببنغازي شرقاً وسرت ومصراتة في الوسط والوسط الغربي حتى العاصمة المُحاصَرة بقوات حفتر، لا أفق يلوح في ليبيا ولا مكان لحمَامَات السلام.
لاحت مضيئة ولامعة تونس المبتهجة والساطعة بديمقراطيتها التي سحقت الأحزاب سحقاً، وأتت برئيس كالسيف وحده لا منتمٍ، امتخت فيه خياراتها وأحلامها وسفّهت أحلام الساسة وسخرت من لوثة الحزبية التي لا تنتهي، لو كان القذافي حياً لملأ الآفاق حديثاً وضحكاً وقهقهة بأن نظريته العالمية الثالثة حول الأحزاب والتحزّب والتمثيل النيابي والديمقراطيات ولعبتها على الطريقة الغربية، هي أصح ما وُجد في الأرض العربية من فكر ورأي في العصر الحديث، ولمد رجليه على امتدادات الزمان والمكان العربي، ولغسل وجهه في ماء البحر الأبيض المتوسط، وتوسّد ذراعه المطوي ونام.
لاحت الجزائر .. كما تلوح أحلامها الديمقراطية اوي في الثورية المهيضة الجناح، نصف انتصار لثورتها على نظام بوتفليقة، لكن المؤسسة العسكرية الأقوى والأكثر تماسكاً عربياً وأفريقياً، أجادت فن الاحتفاظ بالكرة كما يقول النقاد الرياضيون، لم تزل شوارع الجزائر طازجة الهتاف، والثورة بكر، والمستقبل مجهول في رحم الغيب…
هبطنا الدار البيضاء وليل الإثنين يودع، وبحر الظلمات أكثر حلكة في تلك الساعة، غرقت المدينة في شلالات نور، من مشاهد الفيلم التاريخي الذي يُعَد من قلائد وفرائد تاريخ السينما العالمية (كازا بلانكا) الذي أنتج عام 1942 بطولة همفري بوغارت وانغريد بيرغمان وبول هنريد وإخراج مايكل كورتينز، إلى صورة المدينة مرة أخرى ونحن نقلع بعد ساعة من الهبوط على متن طائرة الخطوط الملكية التي انعطفت انعطافة هائلة فوق سماء المدينة توجهت بنا جنوباً في رحلتنا إلى العاصمة الغامبية بانجول التي سنشارك فيها في الاجتماعات المشتركة للمنظمات غير الحكومية، منظمات المجتمع المدني الأفريقية المعتمدة لدى الاتحاد الأفريقي ومنظمات الاتحاد الأوروبي، حول قضايا حقوق الإنسان وحرية التعبير والهجرة غير الشرعية واللاجئين…
الليل طويل، والمحيط الأطلسي أشد ظلمة .. وقصة أخرى تروى غداً عن غامبيا هذا البلد المسلم المنسي على حافة الأطلنطي وعند منعرج التاريخ….