فُرصة التسوية
بكل الحسابات السياسية، قضية السلام والاتفاق مع الحركات المسلحة، هي الخيار الأوحد للخروج من الأوضاع الاقتصادية والسياسية والأمنية، وفتح الباب للتعاون مع المجتمع الدولي، وجذب المساعدات والقروض والمِنح والاستثمار إذا تحقَق السلام بالفعل، وصمتت فوُّهات البنادق، فاجتماعات جوبا المُنطلقة الآن لم تعُد مُجرَّد لقاءات للبحث عن حلول، إنما ضرورة حتمية لابد من استنجازها بالسرعة المطلوبة، وإلا فإن أوضاعنا لن تتغير، واقتصادنا الذي هو اقتصاد حرب لن يتبدّل.. فاغتنام هذه الفُرصة بِحلٍّ مُترَاضَىً ومتفق عليه بين الفُرقاء جميعاً ولا يستثني أحداً هو ما تتطلّبه هذه اللحظة الحاسمة، فلو ضاعت هذه المرة أو لم يحدُث تقدُّم ملموس، لن تلوح سانحة أخرى توفّرت لها عوامل النجاح مثل هذه السانحة.
نجاحُ هذه الجولة رهينُ بما سيتم الاتفاق عليه في منهج التفاوض أولاً، ثم تحديد نقاط الخلاف والمضي قدماً بالمُتّفَق عليه دون إبطاء أو تأجيل، هناك قضايا مُركّبة في هذه الجولة التفاوُضية، فلكلِّ حركة من الحركات موضوعات تتعلّق بالجهة التي تنشط فيها وتدّعي تمثيلها، فالحركة الشعبية قطاع الشمال بجناحيها لديها هموم سياسية وأمنية وتنموية تتعلّق بالمنطقتين جنوب كردفان والنيل الأزرق، بينما تنكفئ حركات دارفور والشرق بذات القدر على المسائل المناطِقية والجهوية، بينما تتفّق الحركات على ملف الترتيبات العسكرية والأمنية.
بالمُطلَق لا يُمكن اعتبار مواقِف الجبهة الثورية ككيان يجمع الحركات وما يصدُر عن هذا الكيان هي قضايا تفاوُضية، خاصة ما يتعلق بالشؤون القومية كنظام الحكم والهوية والاقتصاد بما فيه قسمة الثروات أو هموم الحريات الأساسية، فما تُعبِّر عنه الحركات في إطارها الجمعي قد لا يصلُح في الجوانب التفصيلية التي تُطرَح على طاولة التفاوض.
وعليه، فإن وفد المجلس السيادي سيكون بحكم تكوينه قادرًا على التوصُّل لتفاهُمٍ مع الحركات في قضاياها الحقيقية، ويُمكن حسم هذه المسائل على ضوء ما اتُّفِق عليه من قبل وتسهيل تنفيذه.
لكن المُحيِّر حقاً هو ما فُهِم من موقف الجهاز التنفيذي وحكومة الحرية والتغيير التي تبدو غير مُنفعلة بهذه الجولة، والدليل على ذلك أنه يوم سفر الوفد أعلن الناطق الرسمي باسم الحكومة أنه لا يمتلك معلومات كافية تُمكّنه من التعليق وإعطاء تصريحات عن الجولة التفاوضية المعلنة منذ أكثر من شهر، ويعلم القاصي والداني موضوعاتها والآفاق المفتوحة على نتائجها المُحتملة، ولا يخفى كذلك أهميتها السياسية مكاناً وزماناً وحضوراً دولياً وإقليمياً، فالحكومة عندما تُحاوِل الإيحاء بأنها بعيدة عن ملف التفاوض، وكأن المجلس السيادي يُغرِّد وحده والحكومة تُؤذِّن في مالطا..!
المطلوب الآن توحّد الإرادة السياسية والاتفاق الكامل على ملف المفاوضات، واعتبار السلام خياراً استراتيجياً لا مناص منه ولا بديل، أما إذا كان بعض وزراء الحكومة ومجموعة الحرية والتغيير لا يُريدون التفاوُض مع الحركات والاتفاق النهائي خشية أن يؤدي ذلك إلى إعادة تقييم كيكة السلطة وإجراء تغييرات وتعديلات في الحكومة، فذلك عيب وقصور في النظر للسياسي، وغياب للروح الوطنية، وتغليب المصالح الذاتية والشخصية على حساب الوطن.. وتلك قصة أخرى.