ببساطة يُمكننا أن نفهم ونتعامل مع اللوحة السيريالية الموجودة أمامنا الآن وتُمثِّلها قوى الحرية والتغيير التي تتخبَّط في أروقة السلطة كالذي يتخبَّطه الشيطانُ من المَس.
فمن يفهم اليسار السوداني وطريقة تفكيره وأدواته في العمل العام، وتناقُضاته السياسية، وما يدور داخل صفوفه في أضابيره التنظيمية، لا تعوزه القُدرة في أن يعرف كيف يفك طلاسم اللوحة السيريالية التي تُعبِّر عن المشهد السياسي الراهن. كثير من الناس يستغربون مما يدور ويجري كل يوم، خاصة انتهاك الوثيقة الدستورية وتمريغها بالتراب وتلويثها بروث أبقار (قحت) غير المُقدّسة، والعمل على عدم احترامها وتجاوُز القانون وانعدام الأخلاق السياسية والتضليل والخداع والنصب المكشوف على عامة الشعب، ومخالفة التقاليد والأعراف السائدة في الحياة العامة، لا يعلم الكثيرون أن هذه هي أهم صفات اليسار والتيار العلماني الطافح كالزبد فوق مياه السلطة، فعمَّا قليل ستتلاشى الرغوة الكاذبة وينقشع السراب .
أمام هذا المشهد، لا نتعجَّب ولن تأخُذنا الدهشة، ونحن نراهم يتجرّأون على القوانين واللوائح التي طالما افتروا على الآخرين بانتهاكها، وملأوا الدنيا صراخاً بأنهم حُماة دولة المؤسسات والقانون والحقيقة، فهذه الفِرية والافتراءات لن تنطلي على أحد، فنظرةٌ سريعةٌ للوزارات وما يجري فيها، وما يقوم به الوزراء من تجاوُز ولهث وراء الامتيازات والمُخصصات ومحاولة الاستئثار بكل شيء من نثريات ومستحقات مجالس الإدارات في الشركات والمؤسسات التي تتبع للوزارات، وما بدأ يدُبُّ من وقع خطوات الفساد في الأسابيع القليلة من تكوين الحكومة، ستكشف عن خطايا الانتهازيين اليساريين والعلمانيين وتدميرهم للبلاد، وقد بدأ ذلك بالخدمة المدنية التي لم يكتفِ الشيوعيون بتدميرها مطلع السبعينيات من القرن الماضي مع مايو، فها هُم يُواصلون مع بقية حلفائهم في التيار العلماني البائس تحطيم الخدمة المدنية وتجاوُز قوانينها وضوابطها وأحكامها .
وقد كشف أيضاً نمط ونوع الوزراء الذين قدّموهم، أن البلاد ستشهد أسوأ أنواع التردّي والفشل الإداري، وستضمُر الخبرات الفنية في الوزارات ومؤسسات القطاع العام، خاصة في المجالات الخدمية والبنى التحتية، دعك عن معالجة الاقتصاد وزيادة الإنتاج وتشجيع الاستثمار.. ونظرةٌ سريعةٌ للتخبُّط الإداري وإلى إصدار القرارات العشوائية وروح التشفِّي والحِقد الأعمى على الكفاءات والقيادات التي كانت تُسيِّر دولاب الخدمة العامة وتعيين قليلي الخبرة والتجربة وامتهان وسحق قوانين ولوائح الخدمة المدنية، كلها شواهد تكفي للتدليل على أن مرحلةً سوداء قاتِمة وكالِحة ستحل بالبلاد نتيجة لما نراه ونُعايشه كل يوم .
بجانب ذلك، ليس هناك ما هو أكثر إثارة للضحك والسخرية من الأداء السياسي الذي لا طائل من ورائه لقوى الحرية والتغيير، فهي تعمل بطريقتين مُتعارضتين، فالشيوعيون يعملون من الداخل والخارج، يحكمون ويُعارضون، وبقية الجوقة السياسة تبدو أكثر ضجيجاً وعويلاً في الساحة تُذكِّر بالبراميل الفارغة، لا توجد رؤية سياسية ولا أفكار جادة لمُعالجة أزمات البلاد، ولا إستراتيجية تجاه القضايا المِفصلّية في المنطقة من حولنا وكيفية التعامُل معها لضمان وصوْن مصالح البلاد العُليا وحمايتها ..
إننا لا نرجو من عملاء السفارات وأذناب الاستعمار الجديد، إلا الوبال.. لا جديد لديهم ولا برنامج ولا تصوّرات مُتكاملة لمٍشروع سياسيٍّ وتنمويٍّ ينهض بالوطن، متخمون هؤلاء بالدعاية الحزبية والعواء والنباح السياسي، وما أفادَ ذلك وطناً قط ولا بنَى أُمَّة … ستُعلَّق اللوحة السيريالية على الواجهة لكنها ستزوي وتَبهَت ألوانها ويطمرها الواقعُ والزمن ..