تاج السر الحبر !!
صحيح أن (المكتولة ما بتسمع الصايحة) وعلى ذلك، فإن الصحيح هو أن نواصل الصياح إعذاراً لضمائرنا وأملاً في إيقاظ بعض السكارى في حلبة (فش الغبائن) الصاخبة بعد أن كانت كالمحافل الماسونية سريةً وطقوساً.. ها هي الآن تمد رقبتها فلا يتناهون فيها عن منكر فعلوه.
يسمع الواحد منا الكثير من الآراء والتعليقات في القضايا العامة ومن مختلف صنوف الناس وبمختلف ميولهم وانتماءاتهم..في داخل كل قبيلة وتصنيف تتراوح الآراء والأفكار وتختلف ثراء وجدباً دون أن تفسد للود قضية، لأن سياجاً معرفياً ضرورياً قائماً لا يتخطونه أبدًا..
فليس من المقبول مثلاً أن يجالس الأطباء طبيباً يقول بأن (الغدة الدرقية يجدي معالجتها بالجلسات الكهربائية)!! أو مهندساً لا يلقي بالاً لجداول الكميات!!..
اجتمع نفر كريم من محامي (قحت) إلى الدكتور تاج السر الحبر المعين لمنصب النائب العام عبر الوثيقة الدستورية الثانية..
كانت القلوب تهفو إلى محمد الحافظ لاعتبارات ليس من بينها بث العدالة وتطبيق القانون .. حتى إن سيف الدولة كتب من عليائه في حسرة لا تخفى علي أحد:
(خسرنا معركة وكسبنا الحرب)..
واهمية تلك الجلسة تكمن في أنها تمثل الظهور العلني الأول لما انتظره الناس طويلاً … رجل في مهمة انتقالية يريد البعض أن يجعلها مهمة غير رسمية !!
كان الأستاذ صديق كدودة حاضرًا بقلنسوته العربية وكلامه الأشد غرابة وهو يقرر أن (التشفي مطلوب بل وقانوني)..
وأن (بسم الله الرحمن الرحيم) في أول الخطابات نفل لا ضرورة لها..
كدودة المحامي قال إن مولانا عامر (صعلوك، قليل أدب ما محترم ومنحط).. أي والله قالها هكذا، وبذات الترتيب ليضع وكيل النيابة المسكين بلا حق للدفاع بين يدي مقصلة الحبر..
الحبر كان مدهشاً.. أغلب الجلسة والحضور في اتجاه، والدكتور تاج السر الحبر في اتجاه آخر مغاير.. لغة وموضوعاً..
حينما يتحدث تنفرج القاعة على نحو أكثر اتساعاً ومعرفة ..
يتحدثون فتضيق مرة أخرى..
يحدثهم عن العوار الماثل في الوثيقة وكيف تكون الشرعية الدستورية فينادي محمد الحافظ بالشرعية الثورية.. ملتقطاً إياها من الديباجة ليقول بلا أدنى احتراز إنها الأصل الذي يجب أن يتبع.. يبصرهم الحبر بمقولات سيادة القانون وأن العدالة يجب أن تُرى، لكن الحافظ يقول (أي زول داير يمشي يقول “فصلوني ساي” اليمشي يطعن)..
وتصج القاعة بالتصفيق المتوتر الحاد ..
كان الحبر وحيداً وسط محيط متلاطم واضح التربص محشود بكل أذى حتى وإن كان ذلك على جثة القانون المُسجّاة.. كئيباً توقته الحقيقة بالصفيق ولا زال حتى ما قبل أدائه اليمين مكباً على ما عرف ولزم..
وما الذي يمكن أن تفعله (خضراء الدمن)..
آدمية الحبر البائنة وعلمه الوافر جعله يقدم اعتذاره مراراً وتكراراً عن تسنُّم تلك المسئولية الجسيمة.. بنزعته الصوفية المعلومة هو ملتزم على نحو قاطع ومُعلن بفضيلة العدالة وأخلاقها التي لا يمكن فصلها عنها لأي سبب مهما كانت قدسية الغرض المراد تحقيقه، لذا فإنه أبدي ضيقه الواضح من أساليب التهريج والصبينة التي تشبه المُهرّجين من السياسيين ولا تليق إطلاقاً برجال العدالة جميعاً والذين يجب عليهم أن يترفعوا عن وضع أنفسهم في مواضع التباغض وعليهم ضبط انفعالاتهم وكبح عواطفهم، تكاد ترى حيرة الحبر وهو يرى صعوبة مهمته بين كل هذا الجنون الذي لا شفاء منه.. جنون العامة الذي انتهى إلى القبول بوثيقة منتجة لصالح (دار المايقوما) وتعهدوها باللامنطق و(كان عجبكم)..
واضح أن المهمة ليست مفصلة عليه.. صحيح أن موقف الحبر السياسي معلوم وكيف جابه شرساً النظام السابق، إلا أن عدالته وقيمه وأخلاقه وخلقه لا يتصل وما تتطلبه بعض أجنحة (قحت) لـ(ثور هائج في مستودع الخزف).