في الوقت الذي شهدت فيه الساحة الإقليمية والدولية، هُدُوءاً وصُعُوداً لليسار مرةً أخرى في السودان ومصر واليمن الجنوبي وفي المغرب، فاجأت حركة النهضة التونسية الجميع وحقّقت تقدُّماً كبيراً في الانتخابات التشريعية للبرلمان، وحصلت النهضة على أكبر عددٍ من المقاعد البرلمانية، ومن بعدها جاء حزب حديث التكوين، ليبرالي التّوجُّه، علماني الهوية، زعيمه محبوس في غياهب السجون، ويعتبر المُنافس الأول لزعيم التيار المُحافظ قيس بن سعيد، ويعتبر نبيل القروي اليوم فرس الرهان للعلمانيين بعد سقوط آخرين في امتحان الجماهير.
وإذا كانت حركة النهضة قد حصلت على ٥٢ مقعداً في البرلمان، وحزب قلب تونس قد حصل على ٤٤ مقعداً، فإنّ النهضة يقع على عاتقها قيادة تفاوُض شاقٍ ومُضنٍ، بحثاً عن مائة وخمسين مقعداً أخرى بالتحالُف مع الأحزاب الوسطية والعلمانية واليسارية حتى تستطيع تشكيل حكومتها وهي مُهمّة صعبة، وتحتاج لتقديم تنازُلات كبيرة منها ربما تخلّت عن منصب رئيس الوزراء من أجل ضمان استقرار الحكومة.
وشكّل فوز النهضة التونسية مُفاجأة لكثيرٍ من المُراقبين بالنظر لما تعرّضت له من حصارٍ وحربٍ من الغرب ودولٍ عربية عديدة تنظر للإسلاميين في كل مكان بعين السخط، لكن زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي الفيلسوف والمُعلِّم والمُفكِّر، عميق النظر وخليفة الراحل الشيخ الترابي في قيادة التنوير والتثقيف في الفضاء الإسلامي.
لكن السؤال لماذا صعد الإسلام الحركي في تونس وتقهقر في السودان بعد أن حكم لمدة ثلاثين عاماً بالغلبة والقوة؟ ولماذا ظل التوانسة ينظرون للإسلاميين بعين الرضاء والأمل في تغيير واقعهم؟؟
إنّ فلسفة حركة النهضة التونسية تقترب كثيراً من فلسفة الإسلاميين الأتراك، الذين وضعوا رهانهم على القيادة القُدوة والمثال في التّجرُّد وحُسن الأداء والطهر والنزاهة والبُعد عن مَلَذّات الدنيا وطيبها، وخلال سنوات حكم حزب العدالة في تركيا تمّ تطهير الحكم من الفساد، وقدم وزراء العدالة نُموذجاً مُشرقاً في العِفّة وحُسن الأداء.
وفي تونس، لم تُسجِّل في دفاتر الوزراء الإسلاميين شائبة فساد مالي واحدة، وقدّموا أنفسهم لشعبهم بما يَشرفهم كحركة فكرية وسياسية تهتم بالإصلاح الاجتماعي قبل الإصلاح السياسي ووقفت مع الشعب التونسي مُناهضة بالحُسنى كل مُحاولات تغريب المُجتمع، ولم تَستخدم العَصَا الغَليظة في الدعوة والإصلاح، ولكنها اِنتهجت التربية والإصلاح حتى حَقّقَت مقاصدها بثقة الشعب ولم تَستثمر في الصراع الأيديولوجي بين دعاة العلمانية والإسلام.
ولكن التجربة السودانية التي غربت شمسها، على النقيض من فلسفة تونس، وإذا كانت ثورات الربيع العربي في كل من مصر وليبيا قد قامت بفضل جسارة الإسلاميين الذين يَتُوقُون للحرية والعدالة، فإنّ ثورة ١٩ ديسمبر في السودان قد قامت من أجل قيم الحُرية والعَدالة والسلام التي غابت سنوات حكم الإسلاميين في السودان، ووجدت الحركة الإسلامية نفسها في موقفٍ لا يحسده عليها حاسد وهي تُواجه ثورة شبابية عاتية كفعلٍ تراكمي بسبب سنوات الحكم التي تَطَاوَلَت، وقد كسبت الحركة الإسلامية في تونس وهي تضع رهانها على الشعب، وخسرت الحركة الإسلامية في السودان وهي تَضَع رهانها على العسكر الذين في آخر المَطَاف اِنقلبوا عليها.. وقد صعد إلى القمة اليسار بكل أبواقه الإعلامية وذلك عبر تحالفٍ عريضٍ يضم كل القِوى العلمانية التي تَسعى لإلغاء الشريعة الإسلامية والعودة بالاقتصاد إلى ما قبل ١٩٨٣ تاريخ إعلان الرئيس الأسبق جعفر نميري تغيير وجهة البلاد من العلمانية إلى الإسلام.
ولم يستشعر الإسلاميون حتى لحظة كتابة هذه المقالة خُطُورة ما يحدث في الساحة، والقيام بجهدٍ لتوحيد صَفّهم وتكوين تحالُف يتجاوز الخلافات المذهبية والطائفية والاتّفاق على الحد الأدنى لجمع الصوفية وأهل الجماعة والسنة والشيعة والتجانية والقادرية، وتأسيس حركة جديدة تصد عنهم غلواء اليسار وتطرح بديلاً إسلامياً جديداً، ولن يتحقق ذلك إلا بتنازلٍ كبيرٍ يُقدِّمه الإسلاميون الوطنيون حتى يلتقي معهم الإسلاميون الشعبيون والختمية والأنصار من غير التيار العلماني في حزب الأمة، ويجتمع الإصلاحي والحركي والإخوان المسلمون في جسدٍ واحدٍ ومن أجل هدفٍ نبيلٍ.
مُفاوضات جوبا
اليوم الثاني عشر من أكتوبر كان مُفترضاً أن يحزم المُفاوضون من الحكومة حقائبهم ويرحلون جهراً إلى جوبا عاصمة دولة جنوب السودان، لبدء المُفاوضات مع الجناح العسكري لقِوى الحُرية والتّغيير، الذي ظَلّ بعيداً عن المُكوِّن المدني مُنذ سُقُوط النظام السابق قبل نصف عامٍ من الآن، ويتطلّع الجناح العسكري لقِوى الحُرية والتّغيير في دور له خلال الفترة القادمة، وتحقيق السلام في إقليم دارفور وجبال النوبة، إلا أنّ المُفاوضات التي حُدِّد لها بعد غدٍ الاثنين، يَكتنف مَصيرها الغُمُوض الشديد من جهة قيامها في مَوعدها الذي حدّدته الوساطة الجنوب سودانية مع كل الأطراف في الشهر الماضي، إلا أنّ الحكومة بدأت في شغل عن فريضة السلام ومُنشغلة بمُقاضاة الشيخ عبد الحي يوسف أحد أبرز الدعاة وخُطباء المساجد بالسودان، ولم يجد مجلس الوزراء في جلسته الأسبوع الماضي في كل قضايا البلاد غير إعلان تَضَامُنه ووقوفه مع وزيرة الرياضة ولاء البوشي التي تمثل تيار الإخوان الجمهوريين الذين يمثلون أحد أذرع قوى الحرية والتغيير، ولم يُناقش مجلس الوزراء قضية الاحتجاجات في نيالا، ولا كيفية إدارة الولايات، ولا توفير الوقود ومُعالجة ارتفاع أسعار السلع الضرورية، كل ذلك لم يشغل مجلس الوزراء المُحترم، ولكنه انشغل وانصرف إلى الإعلان وقوفاً وراء امرأة تُدّعى ولاء البوشي، وسجّل المجلس سابقة في التاريخ وهو يدعو وزارة العدل لتصطف معه وتقف مُعلنةً تضامُن الوزراء مع الوزيرة، ولكن عضو مجلس السيادة الفريق شمس الدين كباشي نظر وقدر واتّصل على الشيخ الجليل عبد الحي يوسف ليطمئنه بأنّ الدول تقف مع الحق والعَدل ولا تَتَحَيّز لطرفٍ على حساب طرفٍ آخر حتى ولو كان وزيراً، وهذا الموقف يكشف عن معدن المُكوِّن العسكري لمجلس السيادة كرجال دولة جَديرون بالاحترام والتقدير.
المُهم مجلس الوزراء لم يُناقش حتى اليوم كيف يتحقّق السلام وتتوقّف الحرب في المنطقتين ودارفور، وإنهاء مُعاناة الملايين من أبناء شعبنا، ولكنّه حريصٌ على إنهاء مُعاناة ولاء البوشي من النقد الذي وجّهه لها أحد الشيوخ في منبرٍ عامٍ وفي قضية عامة.
وإيقاف الحرب يمثل ضرورة في الوقت الراهن، لأنّ التحوُّل الديمقراطي المَنشود لا يتحقّق إلا بوقف الحَرب، ولن تتوقّف الحرب إلا بإعادة هندسة السلطة المركزية وإبرام اتّفاقٍ يقضي بمُخاطبة جُذُور الأزمة السودانية في البلاد، وهي أزمة عَميقة جداً مُرتبطة باختلالات في تركيبة السُّلطة وفي قِسمة الموارد بين المُنتجين والمُستهلكين، ولكن حتى هذه اللحظة لم يحسم مسألة من يُفاوض حاملي للسلاح؟ هل تفاوض الحكومة بمجلسها السيادي أم بجهازها التنفيذي؟ أم بتحالُفها السِّياسي؟ ولفّ الصمت جهاز الدولة التي أثبتت الأيام أنّ حاملي السلاح وخَاصّةً الجبهة الثورية تثق في المُكوِّن العسكري أكثر من الجناح المدني، وقد حَقّقَ الفريق أول محمد حمدان دقلو عضو المجلس السيادي، نجاحاً كبيراً في التفاهُم مع الجبهة الثورية، ولكن بعد الاتفاق على إعلان المبادئ جرت مُفاوضات أُخرى قادها الدكتور عبد الله حمدوك في جوبا.
تنازُلات مطلوبة
* لن يَتَحقّقَ السلام في البلاد من غير أن تُقدِّم الحكومة تنازُلات كبيرة ومُهمّة وتمثيل قِوى الكفاح المُسلّح كما أسماها حمدوك في المجلس السيادي على الأقل بثلاثة أعضاء، من بينهم النائب الثاني لرئيس مجلس السيادة وتمثيل الحركات المسلحة بعددٍ لا يقل عن نصف أعضاء مجلس الوزراء، والإقرار بالمُشاركة في المجلس التشريعي ومُخاطبة انشغالات الحركة الشعبية التي تُطالب بحكم ذاتي للمنطقتين وهو مَطلبٌ يجد الدعم والسند من قِبل المُواطنين في جبال النوبة بصفةٍ خَاصّةٍ، وينظر أهل تلك المَناطق للتّوجُّهات المركزية التي تُريد فرض السيطرة على الأقاليم والولايات بأنّها مُحاولة لإعادة عقارب الساعة للوراء، وقد بدأت تحرُّكات في النيل الأزرق بصفةٍ خاصةٍ إلى إعادة المشورة الشعبية التي تَمّ تعطيلها بسبب قيام الحرب، والمُفاوضات المُرتقبة تُشكِّل أهمية كبيرة جداً لأنّ الثورة والتغيير الذي حَدَثَ إذا لم يُحَقِّق السلام، فإنّ هذه الثورة لم تُحَقِّق مقاصدها.