كانت عيناه حينئذٍ تقفانِ على جرحاه.. جرح كبريائه الذي لا يندمل، والجرح الذي خلَّفته في قلبه نصال الليالي الطويلة التي قضاها يُطارد خيلاً مطهمة من جياد الأوهام، تتوارى الأوجه في غابات الأوجه، ويُسافر هو مثل الأشياء الغائصة في بحر الأشياء..
وحتى تلك الساعة من غسق الحزن، لم يُفصح لأحد في العالمين، بأن جراحه عمياء بكماء لا تنزف.. لكنه يشعر أن دمه وقلبه تشرَّبا من لون حياته الباهتة، وهو يبحث عن نجم بعيد في صحراء التيه التي ظل يعيشها.. ثم لم يجد شيئاً.. كأنه لمعة برق تاهت في مزاريب السحاب المُعْتمة..!
لربما كان يشبه خيال مآتة لسياسي لفظته حلباتها، فغدا واقفاً بعكازتين من خشب على بيدر السياسة تأكل طير الخيبات من قصعاته الفارغة.. وليس لديه من الدنيا، إلا دفاتر وأوراق مُغْبرةٌ صفراء، وصور فوتغرافية تقشَّرت وجوهها بفعل الأمطار والإهمال، فصارت شمطاء حيزبون ذهبت عنها حتى نضارة الذكرى التي تتوشح بوشاحها..
رهق العمر وسويعاته المتعجّلات الخجِلات، حفرت أخاديد على وجهه، مثلما حفرت بإزميل من نار على فؤاده، لم يبقَ في نفسه من أمل إلا عرائس من ورق، وكواعب من كلمات انطفأ فيها بريق الحياة، وتسمع عند مجالسته صخباً في صدره كصدى صوت قوي في جوف مغارة عظيمة، لعله صدى الأيام الراجعة وهي حافية القدمين تركض فوق حصاته الحمِئة ..!
(ب)
كان شاحباً في وهج الضوء.. باسماً في ساحة البكاء.. مغنياً في جلال المآتم.. وصاخباً في سراديب الرماد.. يسكب روحه في حشرجة الكلمات الهلكى وحلوق العصافير المسكونة بالغبار الطفولي، وعويل الأغنيات..!
قابلته بعد سنوات طويلة مذ فارقناه ذات غفلة في مدينة نيالا مطلع السنوات الثمانين، وكنا في صبا باذخ وشرخ شباب غض، وهو في بدايات عمله في وظيفة في درجاتها الدنيا بدواوين الحكومة ومجالسها الريفية، أيام كان السُّكر والوقود والدقيق والتموين بيد الضباط الإداريين يقلبونه بين أصابعهم كما يشاءون وشاء لهم الهوى..
كانت الحياة أمامه واسعة كالمشارق التي يتلألأ في فضائها وأُفقها الشرقي كل مساء نجم بعيد قصي، أو وهج بروق لـ(مُربط العِجيل) في فصل الخريف، لا يشبه كثيراً من موظفي تلك الحقبة، يظن أن بمقدوره وبالفضاء القيمي الذي يعيش تحته أنه سيُغيِّر الدنيا والعالمين، تشرق الشموس في فجاج روحه وإشراق كلماته، نجا ولم ينغمس في لهو تلك السنوات الغابرة والتصاديق الطائرة والاتحادات التعاونية والسلع الحكومية التي وجدت لها مجرى إلى السوق، وشارات الرضى التي كانت جموع السماسرة و(التشَّاشة) تصبغها على بائعي الرخص والتراخيص والإعفاءات..
كان يظن نفسه أن مواقفه ومبادئ يؤمن بها، جعلته مثل السيف وحده.. في غابة من رماح جائعة، وأعناق ذليلة استذلها الطمع، واستعبدتها الأنفس الأمارة بالسوء، استل نفسه من ضجة الليالي في الميزات الحكومية وعلب الليل، وتقمصه حلم بأنه سيُغيِّر العالم ويهزم الطمع ويحقق نصراً كاسحاً على تلك الصورة الكاسحة.. والشارات على كتفه وزيه الرسمي الذي يشبه لون التراب، كضابط إداري. وخداع البطولات الذي صنعته في قلبه وقلوبنا السينما يومذاك، وكُتب المغامرات وومضات التاريخ منذ صعاليك العرب إلى شخصيات موريس لبلان، وروبن هود، ومواقف هالكالبري فن وصور المثاليين والمُصلحين في التاريخ..
(ت)
كان متوسط الطول نحيف الجسم دقيقه، ينتعل مركوباً من جلد الغنم، تعرَّقت يداه مثل جذع شجرة يابسة، تشَّقق كعبا قدميه كأرض طينية جافة، عيناه براقتان لامعتان، يغمضهما بسرعة ويفتحهما أثناء الحديث. ودائماً ما يقول عن عينيه صاحبنا (ي) إنهما تشبهان ما درسناه في كتاب اللغة الإنجليزية بالمرحلة المتوسطة(reader 2) عن لمعان النجوم
(pling and wing)، أنفه دقيق طويل يضحك عليه أحد أساتذة اللغة العربية ودهاقنتها في مدرسة نيالا الثانوية، وكان يعرفه بأن هذا الأنف يذكره بالقبيلة العربية الشهيرة(بنو أنف الناقة)، وكانوا ينفرون من هذا الاسم. وسبَّب لهم عاراً إلى أن جاءتهم نجدة الشاعر الكبير الحُطيئة الذي مدحهم ومحا عنهم العار بقصيدة طويلة منها البيت الشهير:
قوم هم الأنف والأذناب غيرهم
ومن يساوي بأنف الناقة الذنبا..؟
وكانت هذه القصيدة سبباً في زواج بنات القبيلة بعد أن أدركتهن العنوسة..
أنف صاحبنا كان دقيقاً ورفيعاً وشامخاً مثل تطلعاته وآماله، كان كثير الصبر وكثير الانتقاد، لا يسكت على خطأ ولا على باطل، لا يخشى لائماً في حق، جزيرة وسط بحر متلاطم من التناقضات، غريب وجه ويد ولسان..
(ث)
وذات يوم من خريف ثقيل دخلت غادة هيفاء على مكتب صاحبنا في مجلس البلدية وهو غارق في وسط رزنامات الأوراق والملفات والتصديقات، يُراجع ويكتب ويشطب ويكشط ويعدِّل، ارتعش وانتفض من أعماقه عندما لسعه عطرها الفوَّاح قبل مظهرها الساحر المهيب، كانت تمسك بملف وأوراق، طار لُب صاحبنا وطاش، وكان من قبل عبوساً صارماً، تعجَّل في خدمتها وأنجز لها ما تريد.. وسط دهشة الموظفين والعمال والكتبة والفراشين والمراسلات.. لأنه سار من مكتبه للمكتب المجاور حافي القدمين.. حاسر الرأس من قبعة الإداريين الشهيرة، وعاد إلى مكتبه بعد مغادرة المرأة الحسناء مُنطلق الأسارير وجرى تصفير مُنغَّم على شفتيه المذمومتين.. واكتسى وجهه بحُلة جديدة.. ثم تتابعت زيارة الفتاة.. وتخرج الأوراق بسرعة البرق.. وصار سُكَّر التموين يتسرَّب من بين أوراق الفتى الغرير.. وتصديق الأكشاك محضراً قبل طلبه.. وغاب الفتى وراء تلك العاطفة الجائشة.. وبسرعة البرق تحوَّل من جلمود صخر إلى نسمة رقراقة، انهارت حصونه كبيوت من رمال..
(جـ)
وشهدت الفترة التي عرف فيها تلك المرأة، انحداراً في قيمه المهنية بشكل لا يُطاق لدى زملائه وكبار مسؤولي البلدية، وصار كثير التغيُّب، يتراكم العمل على مكتبه وتزدحم الأوراق، وصارت المواعيد تترى، والأحاديث الهامسة تنتشر، واجتاحته من كل جانب أنواء وعواصف لم يألفها من قبل، طرفه ساهم وخياله شارد وكلماته مُبهمة حتى أن «كلتوم» بائعة الشاي في طرف المبنى الشمالي الشرقي، قالت عنه بلكنة دارفورية قحة (الوليد المسكين شوطنت)، وبدا يتراجع شيئاً فشيئاً من مناطق نفوذه، ابتعد عن صداقاته.. ثم مثالياته.. ثم أحلامه بتغيير الدنيا والعالمين.. وترك ما كان يقرأه من روايات وبعض كتب الفلسفة وعلوم الدين والأخلاق عند الفلاسفة الغربيين وفي التراث الإسلامي.. وصار خِلسة يشتري أشرطة غنائية حديثة ويهتم بمجلات الشبكة وسمر والموعد ومجلات المنوعات اللبنانية والمصرية، وتسرَّب إلى سمعه غناء هابط انتشر في تلك الفترة.. ثم صار متهندماً رشيقاً كعارضي الأزياء.. وشهدته لأول مرة حفلات الأعراس يقف بعيداً ثم يقترب رويداً رويداً حتى توسط الدارة.. ثم ضاع..
(ح)
على حالته تلك استمر لفترة قصيرة جداً حتى اتهم بالفساد الإداري والمالي، وكونت له لجان للتحقيق، ثم تقرر نقله بعيداً إلى بلدة نائية في أقاصي دارفور، وسرت الشائعات بين زملائه حوله.. بأنه كان يأتي خلسة إلى المدينة وأهمل عمله..ولم يلبث حتى فُصِل عن العمل.. واختفت بعدها المرأة الحسناء من حياته بحث عنها ولم يجدها، ربما وجدت هي غيره.. ووصل إلى حافة الجنون..لم يرجع إلى نقاء وصفاء سيرته تلك ولا بقي على حاله وهو مبتئس كسير الخاطر..
وبعد مُضي أكثر من ثلاثين عاماً.. وقد خطَّ الشيب على مفرقيه، هزل الجسم وخانه الجسد الذي امتلأ بالسقام ووهن العظم.. وضاعت الآمال والأحلام.. وكان يظن أنه سيصعد بما يؤمن إلى قرن الشمس وعنان السماء.. فعاد به الطين المخلوق منه إلى التراب والحفر.. يمشي مُغبر القدمين يبكي مجداً لم يصُنه كالأنقياء..