تكفير الشخص المعين
إن الحكم بإطلاق حكم التكفير على الشخص المعين من الأمور الخطيرة التي ينبغي أن تربط بالجهات العدليّة المختصة والتي تستعين بعلماء راسخين لتكون على بينة في ثبوت ما يكفّر به وفي تحقيق المناط في الشخص المعين وفي التحقق من عدم وجود مانع يمنع من التكفير كالإكراه أو الجنون أو الجهل أو التأويل أو الخطأ وغيرها من موانع التكفير.
وعلى من يقوم بإصدار أحكام التكفير من خلال المنابر وساحات المساجد وفي هذه الأيام عبر صفحات الصحف أن يعلم أن باب «التكفير» من الأبواب التي زلت فيها أقدام كثيرة، وعليه العناية بأصول أهل السنة والجماعة في هذا الباب الخطير، فإن الشخص قد يقع فيما يكون فعله كفراً لكنه لا يحكم بتكفيره كما ذكرت في صدر هذا المقال، يقول الشيخ ابن عثيمين: «وبهذا يعلم أن المقالة أو الفعلة قد تكون كفراً أو فسقاً ولا يلزم من ذلك أن يكون القائم بها كافراً أو فاسقاً، إما لانتفاء شرط التكفير أو التفسيق، أو وجود مانع شرعي يمنع منه».
وإن قضايا التكفير لا يحق لغير العلماء الراسخين أن يدخلوا فيها، نعم العلماء الراسخون علماً وليس المتشنّجون، أو المضطربون أو ضعاف التأصيل العلمي ، أو المنتصرون لأنفسهم في مطاحنات وملاسنات يبرأ منها عامة المسلمين فضلاً عن المنتسبين للدعوة والإصلاح، فكما أنه يشترط في من يفتي الناس في الأحكام الشرعية شروط معتبرة من ناحية علمه وأهليته وتحققه بشروط الإفتاء والاجتهاد، فكذلك في مسألة الحكم بالتكفير، فإنه لا يتكلم فيها إلا من رسخت أقدامهم في العلم، فلا يجوز أن يتكلم فيه من ليس عنده علم ومعرفة وبصيرة ولا يحكم بالكفر إلا على من كفّره الله ورسوله لارتكابه «ناقضاً من نواقض الإسلام» المجمع عليها بين أهل العلم ومن ثم يجب على المسلم أن يتعلم قبل أن يتكلم، وألا يتكلم إلا عن علم..
ويجب على المسلم أن يخاف الله عز وجل، وألا يحكم بالردة أو بالكفر على أحد بدون روية وبدون تثبت وبدون علم.. وهذا هو كلام أهل السنة والجماعة ومذهب أتباع السلف الصالح في كل زمان وفي كل مكان.
فرقٌ بين بيان الحق بدليله والدلالة عليه والتحذير من الكفر وما يوصل إليه ومن الشرك ومظاهره، وبين الحكم على الأفراد المعينين بالتكفير، فليُدعم خط المناقشات العلمية والمجادلة بالحسنى والردود الموضوعية التي يحفها أدب الحوار، وليعتنَ بعرض الحجج، فإن الفائدة ستكون في ذلك.
وهذا تقرير من شيخ الإسلام ابن تيمية في هذه المسألة، أرجو أن يفيد منه من يتعجّل في إصدار الحكم على المعينين، حيث قال: (وأهل السنة لا يبتدعون قولاً ولا يكفرون من اجتهد فأخطأ وإن كان مخالفاً لهم مستحلاً لدمائهم كما لم تكفر الصحابة الخوارج مع تكفيرهم لعثمان وعلي ومن والاهما واستحلالهم لدماء المسلمين المخالفين لهم) .
وقال – أيضاً: (… مع أن أحمد لم يكفر أعيان الجهمية ولا كل من قال إنه جهمي كفره ولا كل من وافق الجهمية في بعض بدعهم؛ بل صلى خلف الجهمية الذين دعوا إلى قولهم وامتحنوا الناس وعاقبوا من لم يوافقهم بالعقوبات الغليظة لم يكفرهم أحمد وأمثاله؛ بل كان يعتقد إيمانهم وإمامتهم؛ ويدعو لهم؛ ويرى الائتمام بهم في الصلوات خلفهم والحج والغزو معهم والمنع من الخروج عليهم ما يراه لأمثالهم من الأئمة . وينكر ما أحدثوا من القول الباطل الذي هو كفر عظيم وإن لم يعلموا هم أنه كفر؛ وكان ينكره ويجاهدهم على رده بحسب الإمكان؛ فيجمع بين طاعة الله ورسوله في إظهار السنة والدين وإنكار بدع الجهمية الملحدين؛ وبين رعاية حقوق المؤمنين من الأئمة والأمة؛ وإن كانوا جهالاً مبتدعين؛ وظلمة فاسقين) .
وقال – أيضاً – بعد ذِكْرِ الخوارج : (وإذا كان هؤلاء الذين ثبت ضلالُهم بالنصِّ والإجماع لم يكفروا مع أمرِ الله ورسولِه صلَّى الله عليه وسلَّم بقتالهم فكيف بالطوائف المختلفين الذين اشتبه عليهم الحقُّ في مسائلَ غَلِطَ فيها مَن هو أعلم منهم؟ فلا يحلُّ لأحدٍ من هذه الطوائفِ أن تكفِّر الأخرى، ولا تستحلَّ دَمَها ومالَها وإن كانت فيها بدعةٌ محققَّةٌ، فكيف إذا كانت المكفِّرة لها مبتدعةً أيضًا؟ وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ، وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ. والغالب أنهم جميعًا جهَّالٌ بحقائقِ ما يختلفون فيه) .
والقضية بحاجة إلى مزيد بسط، لعله يكون في وقت لاحق بمشيئة الله تعالى.