مختار دفع الله
ظللنا ولسنوات خلت، ولا نزال نتحدث بحسرة عن شح في التوثيق لدى كتابنا ومثقفينا وساستنا، فلقد ظل التوثيق يشكل غياباً شبه تام لدينا وحتى تاريخنا القديم والحديث لم ينل حظه الوافر من التدوين الكافي، الأمر الذي دفع ببعض الكتاب والمؤرخين والساسة الأجانب لتناوله وهو بطبيعة الأمر لم يخل من الغرض، ودونكم كتابات بعض رجالات الإدارة الإنجليز الذين تعاقبوا على حكم السودان وأسماء مثل نعوم شقير وسلاطين باشا وغيرهماً..
ما دفعني لهذه المقدمة تلك المخطوطة التي أوقعني حظي السعيد للاطلاع عليها وهي توثق لسيرة ومسيرة نجوم زواهر في فضاءات البذل والعطاء في شتى الميادين، فكان لهم إثراء حياة أهل السودان كلٌّ في مجاله, تلك المخطوطة التي حملت اسم “في ذكرى ومضات مشرقة” تناول فيها الكاتب الأستاذ بدر الدين سليمان السيرة الباهية والمحتشدة بالإنجازات الزاهية لكوكبة من نجوم المجتمع السوداني، لعل من أبرزهم العالم الجليل والعلامة الدكتور التجاني الماحي، أحد أبرز وأبرع النيازك في سماوات الطب النفسي، علاوة على معارفه وعلومه ومواهبه الأخرى، لعل من أبرزها استطاعته فك طلاسم اللغة الهيروغلوفية عوضاً عن أبحاثه العلمية ومؤلفاته، وهو الذي خدم بعلمه وعطائه أهل السودان حياً وميتاً، إذ تقف مكتبته الضخمة والتي أوصى بإهدائها لجامعة الخرطوم دليلاً على ذلك, كما تناول الكتاب السيرة المشرقة للعالم الاقتصادي البارع المرحوم مأمون بحيري، والذي كان أول سوداني جامعي يتم توظيفه بمصلحة المالية، والذي تقلد بعد ذلك أخطر مناصب الخدمة المدنية والمتمثلة في لجنة العملة وبنك السودان ووزارة المالية، وكانت مسيرته طوال حياته كما وصفه الأستاذ بدر الدين سليمان تتسم بطهر اليدين وحسن الطوية وشرف المنبت والاستقامة..
كما تناول الكتاب في مخطوطته أيضاً البروفيسور سعيد محمد أحمد المهدي عميد كلية القانون الأسبق بجامعة الخرطوم بكل ضخامة اسمه وعظمة عطائه الذي لا تخطئه عين ومؤلفاته الثرة التي أثرى بها المكتبة السودانية عن الحركة الوطنية ولمحات من تاريخ السودان عشية الاستقلال، وعن مؤتمر الخريجين وغيرها من الدرر، كما تناول سيرة الدكتور فريد عتباني، وسيرة القانوني الضليع محمود الشيخ عمر، كما كان الوفاء حاضراً لدى الأستاذ بدرالدين سليمان وهو يتناول سيرة والده المعلم والمربي الجليل محمد أحمد سليمان، والذي رحل عن الدنيا دون أن يكمل الأربعين من عمره بعد أن أبلى بلاء حسناً في ساحات العلم والمعرفة. حيث كان لخال أبنائه البروفيسور التجاني الماحي دوراً عظيماً في رعايتهم وإعانتهم حتى برزوا في هذه الدنيا كالنيازك المضيئة، بالإضافة لموضوعات أخرى اشتملت عليها المخطوطة. وقد جاءت باستهلال رائع يتسق وعظمة المخطوطة وثرائها جاد به قلم الشاعر والأديب الأريب الأستاذ فريد عمر مدني، حيث أبدع وأجاد في تسطير مقدمة هذا السفر الجميل، والذي نحسبه إضافة حقيقية للمكتبة السودانية من حيث التوثيق لنجوم المجتمع السوداني وأعمدته في شتى المجالات..
ولئن كان من ثمة ملاحظة فتتبدى في أننا عرفنا الأستاذ بدر الدين سليمان في ميادين العمل الوطني بذلاً وعطاء لا تحده حدود من خلال المواقع التي تقلدها طوال مشواره والتي كان كسبه فيها كبيراً، والآن نفاجأ به كاتباً وموثقاً رفيعاً بل ووفياً يعرف قدر الرجال الذين كانت لهم بصماتهم الواضحة في الحياة السودانية.
فهنيئاً للمكتبة السودانية وللقراء هذه الإضافة البهية من خلال كتاب “ذكرى ومضات مشرقة”، وشكراً لأستاذنا الأديب السامق فريد عمر مدني أن منحني شرف الاطلاع على هذه المخطوطة القيمة..