حكومة تُطارد مِنبرَ مسجد..!!
من حقِّ الحكومة الانتقالية أن تتضامَن مع وزيرتها ولاء البوشي في مواجهة الشيخ عبد الحي يوسف، ومن حق الحكومة أيضاً بعد اجتماعها بمقر مجلس الوزراء أمس توجيه وزارة العدل لاتخاذ الإجراءات اللازمة للتضامُن مع الوزيرة، لكنها بهذه الخطوة هل تعي ما تفعل، لأن ذلك يعني توجيه وزارة العدل لاستهداف خصوم السيدة الوزيرة الهُمامة، وبهذا المفهوم التضامُني كل من قال رأياً في حق وزيرتهم هو خصم للحكومة في نفس الوقت..! لا ندري حقاً… من هو العبقري صاحِب الفكرة الجهنمية الباذخة الدهاء التي تجعل من الحكومة وهي مُحاصَرة بأزمات اقتصادية وسياسية وأمنية ونقص في الوقود والدقيق والدواء وكل ضرورات الحياة، تغرق بكاملها في مواجهة آراء الشيخ عبد الحي يوسف وفتاواه في الأقضية المختلفة؟
هب أن الحكومة تركَتْ كل واجباتها ومسؤولياتها تجاه شعب يبحث عن لقمة العيش وشِربة ماء من أجل هذه القضية، أين سيجد الشعبُ حكومَته، في ساحات العمل والإنجاز أم في سوح القضاء لتجريم من يُعادي نهجها وينتقد وزراءها..؟ ألم تقُم الوزيرة بفتح بلاغ باعتبارها المضرور كشخص من حديث الشيخ عبد الحي؟ فما دخل الحكومة بذلك، وهل ستُشهِر الحكومة سيف تضامُنها المُصلَت ووزارة العدل أمام كل من يحاجج وزيراً أو يُوجّه إليه انتقاداً أو يكشف عن حقيقة ما يعتنقه الوزراء من أفكار تتجلَّى في سياساتهم وأهداف برامجهم..؟
من المُضحِك أن الحكومة بكل رشدها وعقلها السياسي وهي تتجه إلي محامي الحكومة (وزارة العدل) لاتخاذ الإجراءات للتضامُن مع الوزيرة، لتلجأ الأخيرة إلى النيابة العامة لاتخاذ الإجراءات القانونية في مواجهة الشيخ عبد الحي يوسف، تنسى ولا تعلم هذه الحكومة السنيّة، أنها ستؤثر تأثيراً مباشراً وبالِغاً على العدالة بتحويل الوقائع محل الدعوى من قضية المتضرر منها شخص وهو الوزيرة التي تعتقد بموجب المادة 159 أن الشيخ عبد الحي قد أساء إليها وأشان سُمعتها، فتدخُّل الحكومة وإعلانها التضامُن غير المُبرّر يُفقِد وزارة العدل والنيابة العامة حيدتهما، ويُفقِد العدالة نفسها قيمتها، فلو كان الشيخ عبد الحي تحدث عن الحكومة كشخصية اعتبارية، وهاجم سلوكها وبرامجها واتّهمَها بنشر الرِّدة والفسوق أو أية تهمة أخرى لكانت هناك مُبرّرات لتوجيهات مجلس الوزراء أمس، ولو اكتفت الحكومة فقط بكلام عام عن التضامُن لكان ذلك أخف أثراً، لكنها ترتكِب الآن خطأ فادحاً بهذه السابقة التي لم تحدُث في تاريخ السودان بتحويل حديث مُوجَّه لشخص مُحدّد في سياق معلوم وواضح إلى قضية سياسية استوجبت أن تُعرَض على مجلس الوزراء ليتّخِذ فيها إجراءً فورياً ويُوجِّه وزارة العدل ويُعلِن الناطق الرسمي للحكومة ذلك دون النظر إلى الاعتبارات القانونية والتقديرات السياسية الصحيحة.
ومن الخطل بالطبع فتح باب لمثل هذا النوع من التعاطي مع قضايا الجدل الفكري والسياسي والفقهي والاجتماعي في مناخ الحريات، فمن واجب الحكومة الانتقالية الحالية تكريس كل عملِها وجهدِها من أجل تثبيت دعائم الحرية بكل معانيها وكفالة الرأي الآخر المناوئ لسياساتها، وجعل الفضاء العام تسوده روح التحاوُر والجِدال من كل الأطراف مهما كانت الآراء المطروحة ومهما كانت درجة سخونتها أو رعونتها. إن ما قاله الشيخ عبد الحي يوسف رأي استَنَد فيه على حقائق ومُعطَيات وقضايا سبقت فيها الأقوال الفقهية وَوُزِنَت بيِّناتُها بميزان الأحكام الشرعية خاصة المُتعارِض فيها مع أصول المُعتَقَد والدين، وقال في ما يراه من صواب ما قد قِيل من قبل وصدرت فيه أحكام ناجِزة تم تنفيذها، فليس من الحِكمة أن تتدخَّل الحكومةُ في قضايا الجدل الديني والفكري العام، وتصطف مع طرف ضد آخر، وإذا كان الشيخ عبد الحي قد اتّهم الوزيرة في شخصها أو عرضها أو سلوكها، فالقضاءُ سيفصِل في ما قال، وهنا البيِّنة على من ادّعى واليمينُ على من أنكر، لكن الشيخ تحدّث عن عقل الوزيرة ومُعتقداتها الفِكرية التي تعتنقها وتعتبرها منهج حياة وتريد تطبيقها على الآخرين..
لو رغبت الحكومة في التدخّل في كل ذلك، فلتستعد لإصدار أوامر وتوجيهات وقرارات كثيرة لا حصر لها، إذا اتُّهِم وزراؤها بالماركسية والوجودية والعلمانية، واعتناق الفكر الجمهوري الذي ذهب وتلاشى مع صاحبه كما تلاشى وتفرّق عربُ اليمامة بعد مقتل مُسيلمة الكذّاب، ولو أرادت الحكومة مُتابعة وملاحقة أهل الرأي سواء أكانوا علماء دين أو أصحاب نهج مُخالِف، فستخسَر معركتَها لا محالة، لأن الوثيقة الدستورية وكل دساتير الدنيا والقوانين المعمول بها لن تقف سنداً للحكومة، وستنزلِق في وَحَلِها الأخلاقي والسياسي، لأنها تُطارِد الرأي المُخالِف وتعجز عن مُطاردة الأزمات وحلّها مثل أزمة المواصلات والأوبئة والأمراض والعطش والفاقة والغلاء الطاحِن والانحدار الأخلاقي والسلوكي والتشظّي الاجتماعي والفقر ونقص الخدمات وربما غداً … نقص في الأنفس والثمرات..!