* تمر ولاية جنوب كردفان هذه الأيام بظروف أمنية وسياسية بالغة التعقيد، فالحرب التي خيّمت على المنطقة منذ ثمانينات القرن الماضي جعلت الإنسان هناك يميل للعنف ولا يعرف التعبير السلمي الذي صبغ احتجاجات ثورة سبتمبر حتى سقط النظام السابق، ولذلك اتسمت الاحتجاجات ضد شركات التنقيب عن الذهب بالعنف الشديد ضرب وحرق وقتل في تلودي الأسبوع الماضي، وفي الليري قبل أكثر من عام.
إلا أن الحدث الأكثر إثارة للخوف من عودة كردفان الجنوبية لدائرة الحرب ودخولها نفق الصراع العرقي البغيض، ما يحدث الآن من مشاحنات بين بطن واحد من النوبة وبطن آخر من الحوازمة في صراع بين الراعي والمزارع، بسبب ضيق المراعي ومسارات الرحل، مما أحدث شرخاً عميقاً في المجتمع المتعايش والمتساكن منذ قرون بعيدة.
ما يحدث بين النوبة الغلفان والحوازمة دارنعيله، يمثل بداية لحريق جديد، وفصل آخر من فصول الحرب الأهلية في السودان، إذا لم ترتق الحكومة لمستوى الحدث وتنتقل ( من خرطوم أبو الأمين) إلى مسرح الأحداث بالدلنج، وهبيلا والودي وقردود أبو الضاكر الذي لم تسمع به ولاء البوشي في الأحلام وقصص الحبوبات، وتعود جذور الخلافات لتعدّي الحوازمة دارنعيله على مزارع النوبة الغلفان وقتل الرعاة للمزارعين وهروبهم من العدالة، وفشل الدولة في مد يدها لهم .
وكرد فعل لأحداث العام الماضي، قرر النوبة الغلفان إغلاق مسار يمر بأرضهم في وجه دار نعيلة بصفة خاصة دون بقية الرحل عقاباً لهم لعدم احترام حقوق الرعاة، واستغل الغلفان وجودهم في الدولة المركزية والولاية وتم إقناع الولاية بإصدار قرار من لجنة الأمن بذلك.
من جهتهم رفض دارنعيلة القرار بالانتقال من مسارهم الذي حدده الإنجليز في أربعينات القرن الماضي وبتراضي كل القبائل التي يمر بها المسار وقدموا مذكرة للوالي ترفض الانتقال لمسار طريق الدلنج كادقلي مشفوعة بأسباب عديدة من مرور الشارع بالقرى والمزارع مما يعرضها للتلف ورفضت حكومة الولاية المذكرة وتمسكت بقرار نقل المسار، وعلى الأرض بدأت التحشدات بين الطرفين ولم تفلح كل الجهود التي بدأت متأخرة في تقديم حلول يقبلها الطرفان .
حتى أمس الثلاثاء الأوضاع محتقنة جداً وتلوح في الأفق بوادر مواجهة تجر المنطقة لحرب جديدة والحركة الشعبية التي تسيطر على بعض المناطق التي يمر بها مسار الرحل لن تكون بعيدة عن مسرح الحرب، إذا قدر الله أن وقعت وتفجرت الصراعات، وفي غياب الدولة وحل الدفاع الشعبي وتسريح منسوبيه، فإن الحركة الشعبية قادرة على الوصول لمناطق عديدة في حال نشوب النزاع الذي يبدأ بين بطنين فقط، ولكنه يمكن أن يمتد وتدخل أطراف أخرى ومجموعات كانت بعيدة عن الأحداث في لجة الصراع، وذلك قبل خمسة أيام فقط من استئناف المفاوضات بين الحكومة والحركة الشعبية في جوبا برعاية دولة جنوب السودان.
ما الذي يمكن فعله لتفادي نشوب الحريق في جنوب كردفان؟؟ أولًا الأوضاع تتطلب حكمة تتحلى بها الحكومة في الولاية والمركز من خلال تواضع الحكومة وجلوسها مع الأطراف في فرقان البقارة وفي قرى النوبة، وليس الجلوس في القصر وقيادة الجيش ثم الاستعانة بأهل الخبرة من قادة الإدارة الأهلية في كردفان، ونشر قوة كبيرة من الجيش تحمي الرحل وتحمي المزارعين النوبة، والاتفاق مع الحركة الشعبية بالدخول في منظومة الحماية للرعاة والمزارعين معاً حتى لا تنشب حرب جديدة في كردفان الجنوبية مرة أخرى.
وبدا واضحاً أن حكومة حمدوك التي تمثل نخب المركز من اليسار وأبناء السودان النيلي تفتقر لقاعدة وسط المجموعات الرعوية والزراعية إذا كانت مثل هذه النزاعات تتطلب وجوداً لشخصيات في الدولة والحكومة لها قدرة على احتواء النزاعات، فإن حكومة حمدوك الحالية قد تجاوزت كل مجموعات البقارة من رزيقات ومسيرية وحوازمة وأولاد حميد وكواهلة وأحامدة وسليم، ولم تضم في مجلس وزرائها النوبة والكبابيش والبديرية وحمر، فكيف تستطيع احتواء الصراعات في غياب رمزيات للسلطة يرى فيها المواطنون أنفسهم ؟
أم تنتظر تلك المناطق القسمة القادمة بين الحكومة وقوى الكفاح المسلح حتى تجد نفسها مع أولئك، وهو تقدير سياسي خاطئ لأن الحركة الشعبية لا تمثل كل المجتمع بدقة مثلما لا يمثل حزب الأمة بدقة تلك المناطق، مع أن حزب الأمة الأقرب لمناطق البقارة جاء بوزير كله همه ومبلغ علمه أن يعود اليهود للسودان مرة أخرى، لأن اليهود إذا دخلوا أرضًا أفسدوها وما الوزير من المصلحين .
ما يجري في جنوب كردفان يدق ناقوس الخطر ويهدد الأمن القومي وينذر بشر مستطير.