لم تخيِّب قوى إعلان الحرية ظن الجميع ، فقد تراجعت بسرعة مدهشة عن المدنية التي ظلت تنادي بها، وخانت عهدها مع الجماهير، وحنثت بوعدها، وكنا نعلم أن اللهاث وراء السلطة بأي ثمن هو ديدن هؤلاء السلطويين الجدُد، لا يعصمهم من تغيير جلودهم أو تبديل مواقفهم عاصم، لا يهمهم إلا الاستمرار في اغترافهم من آسِن وراكِد السلطة التي وجدوها غنيمة باردة، فهم يعلنون بلا أدنى حياء أو خجل موافقتهم وبصمهم بالعشرة على تمديد الطوارئ والأحكام الاستثنائية التي تناقض مُنطقاً وجملة وتفصيلاً فكرة الحكومة أو السلطة أو الدولة المدنية التي تصايحوا بها وملأوا الآفاق ، ففي المؤتمر الصحفي الذي عقدته قوى الحرية والتغيير أمس، أعلن ناطقهم الرسمي عن موافقتهم على تمديد حكم الطوارئ، ولم يطرف له جفن وهو يُعلن ذلك دون مراعاة حتى لمصير الوثيقة الدستورية التي تم اعتمادها الأسبوع الماضي ولم يجف حبر التوقيع عليها بعد ..!
لماذا تفعل هذه المجموعة السياسية مستجدة النعمة ذلك؟ السبب الرئيس أن ميزان الأخلاق السياسية وقيم الحرية والديمقراطية واحترام الشعب وتقدير رغبة الجماهير، فضاء واسع لا يمكن أن تعيش تحته الأحزاب والتنظيمات والقوى اليسارية المكونة للحرية والتغيير، وهذا الفضاء لا تحتمله مجموعات الناشطين من الدرجة العاشرة الذين وجدوا أنفسهم في غفلة من الزمن، يرضعون من أثداء السلطة المُنطفئة وقد انقطع اللبن وجفّ .. فمن فقد أخلاقه السياسية وكان همه فقط هو الجلوس على مقاعد وكراسي السلطة سيكون عليه أن يتعامل وفق الهوى الذي انقاد له وأذعن، سيكون تفكيرهم في حدود التمتع والتمرغ في تراب الحكم غير المقدس، على حساب الالتزامات والعهد السياسي والمبدئية التي رُفعت والشعارات التي أُطلقت لخداع الجماهير، فإذا كانوا بالأمس قد فُضِحوا على لسان رئيس الوزراء الذي اختاروه، وكشف أباطيلهم بأنهم بلا برنامج ولا رؤية ولا سياسات ولا أفكار، يخبطون خبط عشواء، فها هو ناطقهم الرسمي يؤكد اليوم ما قاله رئيس الوزراء الانتقالي، ويضيف إليه بُعذر أقبح من الذنب بأنهم لم يكونوا متفرغين لوضع برنامج للفترة الانتقالية، وأنهم مع الطوارئ التي لعنوها ولعنوا من أعلنها من قبل ..!
ببساطة، هم لا يريدون السلطة المدنية على الإطلاق، ولا يطيقونها، لأنها ستكشفهم وتفضح أكاذيبهم، لا يريدون الدولة المدنية لأنهم سيذهبون مع الآخرين لصناديق الاقتراع في الانتخابات، ولا يرغبون في المدنية لأنها ستكشف وبالقانون خيانتهم للشباب في الاعتصام، وموافقتهم كقيادات للحرية والتغيير على فض الاعتصام من أمام القيادة. لقد وافقوا على عملية الفض، وكانوا على علم بميعاده، وبعضهم سحب كوادره ونزع سرادقه وخيمة اعتصامه، يؤيدون تعطيل وثيقتهم الدستورية التي تم التلاعُب بها، ويستعجلون حكم الطوارئ حتى لا يُحاسبوا بمقتضاها ويكونون تحت طائلة القانون.. والأدهى والأمر أن قوى الحرية والتغيير في مؤتمرها الصحفي أمس تنصلت عن التفاهمات والاتفاق الإطاري وما تم مؤخراً في مدينة جوبا مع الحركات المسلحة التي طلبت إرجاء تغيير الولاة إلى حين الاتفاق النهائي ومجيء الحركات إلى الداخل والمشاركة في الحكم!..
هذا السلوك هو فضيحة يندى لها الجبين، لقد سقطت قوى الحرية والتغيير في امتحان السياسة والمبدئية والأخلاق، كشفهم بريق السلطة سريعاً، وأزال عنهم الغلالة الشفيفة التي كانت تسترهم، فمن يفعل كل هذا يكون قد وضع نفسه في موضع الذل والخيانة واسترخص نفسه وقيمته، وباتت اللعبة الآن واضحة ومكشوفة وستكشف الأيام غدًا الكثير المثير ..