أناشيد الإثم والبراءة ..!
“رب معصيةٍ أورثت ذلاً وانكساراً خير من طاعةٍ أورثت عزاً واستكباراً” .. ابن عطاء الله السكندري ..!
في أواخر التسعينيات من تاريخ السعودية المعاصر، كان الخطاب الديني ما يزال يميل إلى الترهيب، وكان التشدد في أساليب التوعية الدينية هو النهج السائد على خطب الكثير من الشيوخ الذين تركوا التشدد ومال نهجهم إلى الوسطية اليوم.
في تلك الأيام كان مدرس القرآن في مدرستنا – “المتوسطة الثانية والعشرون بنات” – شيخ ضرير. وكان تنقله بين الفصول يعتمد على أن يمسك هو بطرف عصاته من جهة، بينما تقوم إحدى الطالبات “غالبا ألفة الفصل” بالإمساك بالطرف الآخر. فيكون المشهد كالتالي: الفتاة تمسك بطرف العصا وتتقدم الشيخ وهي تغير اتجاه مشيتها، تارة تمشي بالمقلوب ووجهاً في مواجهة الشيخ، وتارة تمشي وهي تعطي الشيخ ظهرها، ويدها تمسك بالعصا من الخلف .. وهكذا.. المهم أن لا تقترب الفتاة من الشيخ أبداً ..!
وفي إحدى حصص مادة التاريخ تغولت المعلمة على بضع دقائق من زمن حصة القرآن التي تليها، وجيء بالشيخ وفتح باب الفصل. فما كان من المعلمة – التي كانت متدينة جداً – إلا أن التصقت بالجدار كقط مذعور، وهي تصيح في رعب مطالبةً بإخراج الشيخ على الفور. أما السبب فهو أنها كانت تضع عطراً نفاذاً، وبالتالي فهي كانت تخشى من أن تتعثر حاسة شم ذلك الشيخ الضرير ببعض نفحات عطرها، فينطبق عليها ما يقوله بعض الشيوخ – بشأن تعطر المرأة بين الرجال – فتكون في مرتبة الزانية، “والعياذ بالله”..!
بطبيعة الحال تغير كل هذا التشدد بمرور الوقت، بعد هبوب رياح الاعتدال والوسطية في السعودية. إلى درجة صدور قرار – هذه الأيام – بعدم اشتراط إبراز ما يثبت صلة القرابة أو الزواج في حجز الفنادق، بعد تفعيل قرار الفيزا السياحية. وإلى درجة تشجيع كرة القدم النسائية هناك. بينما في ذات الوقت تشهد بلادنا لغطاً واتهامات وبلاغات ودعاوى بسبب اتهامات وجهها الشيخ “عبد الحي يوسف” لوزيرة الرياضة “ولاء البوشي”، بسبب “كرة القدم النسائية” …!
وبعيداً عن الأحكام والمآلات، فإن مثل هذه الروح الاستعلائية التي تنتهج تقييم البُعد الديني في سلوك الآخر لا تجوز. وهي خطيرة جداً، لأنها أولى لبنات البيئة النفسية التي ينمو فيها التطرف الديني المفضي إلى الإرهاب الذي هو في مجمله غرور ديني، يبدأ بثقافة إنكار التدين على الآخر، إلى أن ينتهي بإزهاق أرواح الأبرياء باسم الدين. فالإرهاب في مجتمعاتنا المسلمة كان في الأصل ثقافة سائدة قبل أن يتفاقم إلى سلوك. وأذكر أنني حاولت ـ مرة ـ أن أجتهد في تعريف الإرهاب، فخرجت بالجملة المختصرة التالية “هو سلوك ينتجه مزيج من الشعور بالاستعلاء والشعور بالدونية” ..!
الخطاب الديني في بلادنا يحتاج إلى “تحرير” بالحذف والإضافة، وتغيير في مواضع التخصيص والتعميم. ولتحرير الخطاب الديني من سطوة الاستعلاء، لا بد من رفع شعار “هناك فرق” في وجه الكثير من المسلّمات الخاطئة. فهل – يا تُرى – من مُذَّكر ..؟!
منى أبو زيد