بلسانه لا بلسانِ الدولةِ العميقة ..!
لم يجِد السيّد رئيس الوزراء الانتقالي د. عبد الله حمدوك، بُدّاً من قولِ الحقيقة المُتجرِّدة من أي غُلالة ورداء، وقال في ما يشبه السأم وهو يُصارح بعضاً من الجالية السودانية احتشدوا لسماعه في سفارة السودان بالعاصمة السعودية الرياض مساء أول أمس في يوم الزيارة، إن حكومته بلا برنامج، ولم تعِد الحرية والتغيير أي برنامج أو رؤية للفترة الانتقالية! فقد نطَقَ بنفسه وأقرَّ بأن قوى إعلان الحرية والتغيير ليس لديها حتى اللحظة برنامج للفترة الانتقالية، ولا تصوّر لإدارتها، ولا أية برامج للاقتصاد وكيفية انتشاله من وهدته، وقال بـ (عضمة) لسانه إنه كان مساء السبت الماضي في اجتماع مع المجلس المركزي لقوى إعلان الحرية والتغيير لتسليمه البرنامج الإسعافي الاقتصادي، برنامج الفترة الانتقالية، لكنه لم يتسلَّم شيئاً، وأضاف أنه لا يُريد أن يلوم أحداً على ذلك ..!
لم يأتِ السيد رئيس الوزراء بحديث خُرافة ولا اختلق شيئاً من عدم، فقط قال الحقيقة المُرّة التي ظلّ الكثير من السودانيين يقولونها ويُجاهرون بها، أن ليس تحت القبة شيخ، فقوى إعلان الحرية والتغيير ظاهرة هتافية ونزعة سُلطوية لا يُمكن أن يتفقوا على برنامج مُتكامِل لإدارة الدولة، ولا وضعوا برامج لانتشال الاقتصاد الوطني من وهدته، كانوا فقط طيلة الفترة الماضية يتشدّقون بما يجهلون ويهرفون بما لا يعرفون، فلما أتته السلطة منقادة تُجرجِر أذيالها وقف حمار الشيخ في العقبة، وظهر أن وفاضهم خالٍ وعقلهم السياسي طاوٍ، كبطون أفكارهم، خدعوا الناس بالهتافات وأسرفوا في الأحلام، فبين أيديهم السلطة كاملة غير منقوصة، عجزوا عن الإيفاء بأبسط التزاماتها وواجباتها، لقد اختاروا رئيس الوزراء الذي يُريدون، والوزراء الذين يرغبون، وأُعطوا في المجلس السيادي ما يشتهون، لكنهم ظلوا في طغيانهم يعمهون، وفي لُجاجاتِهم يُسرفون، وكل يوم يرذلون، فهم يرعدون ولا يُمطرون، يعْلَكون جلود الهتاف ولا يهضمون!..
لو قال أي شخص آخر مثل هذا الكلام الذي قاله السيد رئيس الوزراء، لقالوا هذه من شِنْشِنة النظام البائد، ومن أباطيل الدولة العميقة، ومن هذَيان الكيزان، لكنه ويا للعجب يصدُر من رئيس الوزراء بنفسه، ولا يُنبِئك مثلُ خبير، هو الذي يقود حكومة (الثورة) والمطلع على كل الملفات وخطط الوزارات، والذي يتابع الأداء التنفيذي لحظة بلحظة، وهو المُنتظِر في حرقةٍ وتشوّق لمُخرجات اجتماعات المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير حتى يَستلهِم البرامج والسياسات ليُقدِم على اتخاذ القرارات، لكنه لم يجد إلا ما يبرَع فيه اليسارُ هو تصفِية الخدمة المدنية، وفصل أساتذة الجامعات ونصب المقاصل للخصوم السياسيين ..
نقول للسيد حمدوك، لن تجِد من قومٍك ورهطِك إلا كل رزيئة وخطيئة سياسية، كما فعلَ الشيوعيون في أيام مايو الأولى عندما استلّوا سكاكينهم وقطّعوا لحم الخدمة المدنية ومزّقوا أحشاءها، وخرّبوا الاقتصاد الوطني، هُم من قام بفصل الموظفين، وشرّد أساتذة الجامعات كما تفعل الحكومة اليوم، وزيرتها السيدة انتصار صغيرون التي تظن أن فصل أساتذة الجامعات وعُمداء الكُليّات سيُقرّبها دوماً من أصنام الحرية والتغيير زُلفى، فلن تجِد يا رئيس الوزراء إلا هذه الأصوات المشروخة الحلاقيم، المُتعطِّشة للبطش ودماء مؤسسات الدولة، حتى تصير جُثثاً هامدة، فالعقلية اليسارية التي تتحكّم في قرار الحرية والتغيير عقلية سياسية من الزمن الماضي، تخلّفت إلى الوراء في عهود الخيبات والانتصار الزائف وحز أعناق الخصوم، عقليات مُتجمّدة في جليد الصراخ الثوري المُعتَل المُختَل، لن تنتج مثل هذه العقليات إلا الخواء والهواء والفراغ المُمِيت، فلن تكون هناك برامج ولا أفكار خلّاقة ولا قُدرة على الابتكار والابتداع، ستنقضي الفترة الانتقالية وسط غبار الهتاف وغابة الصياح الأجوف ولوثة الواجِهات الحرام التي تدّعي محاربة النظام القديم والفساد ومعاداة الدين ورجالاته وأئمة المساجد، وسيُشغِلونك يا رئيس الوزراء بمعاركهم الانصرافية ومحاربة طواحين الهواء، وستجد نفسك مُمسِكاً بعُكّازةٍ عجفاء لتُقاتِل خيالَ مآتة سمّوه لك الدولة العميقة، وعندما تَكتَشِف في ضحى الغد، أنك كنتُ مُمسِكاً بخيوط من دخان، وهرب ماء الأوهام من بين فروج أصابع يديك… ولاتَ حِينَ مَندَمٍ …!