بوجهٍ عام، عندما تنظر إلى مسلك رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك من ناحية، وهو يسعى ويجتهد ويتعامل بحصافة في تصريحاته يتجنّب الوقوع في الأخطاء السياسية الفادحة، تشعر أن الرجل سيعاني كثيراً من سلوك قوى الحرية والتغيير التي ينتمي إليها، فهو يريد أن يتعامل كرجل دولة، وهم يريدونه أن يتحول إلى ناشط سياسي من الدرجة العاشرة..! فلو تركوه يعمل دون أي ضجيج يستطيع أن يقدم شيئاً بشرط أن يُجري تعديلاً على حكومته التي اختاروها له، وفيها وزراء ليسوا على قدر التحدي والمسؤولية الوطنية في هذا الانعطاف الذي تمر به البلاد، لذلك تجد كثيراً من الناس من خارج دائرة الحرية والتغيير لديهم أمل وتأييد ورضى عن رئيس الوزراء في شخصه وكفاءته وطريقته المتزنة حتى الآن، بلا شطط ولا مُغالاة ولا تطرّف، بينما لا أحد يثق في قوى الحرية والتغيير التي تتكشف سوءاتها كل يوم وتنحدر بالصراع السياسي إلى دركه الأسفل ويرتكب بعض وزرائها الكثير من الأخطاء الساذجة التي لا يمكن أن يقع فيها أي مبتدئ في العمل السياسي أو التنفيذي.
مهمة رئيس الوزراء كقائد للفريق التنفيذي، تجعله يتحلى بسلوك القيادة ومقتضاها، وعليه الالتزام بمسؤوليته الوطنية أولاً قبل أن يفكر في أي شيء آخر، فهو يُدير بلداً وليس شركة خاصة، لا يجنح إلى سفاسف الأمور ومستصغراتها كما تفعل بعض الكوادر السياسية ومستجدّي نعمة السلطة، فتقديرات القرار التنفيذي والسياسي تمر بعدة مراحل وتلتقي فيها عوامل مختلفة وينظر إليها من جوانب متعددة، ومن يتخذ القرار من هذا النوع يتريث ويُمحص ويدرس ويستفرغ وسعه في الاجتهاد حتى يتوصل للسليم من القرارات، وحتى اللحظة لا يمكن أن ننظر إلى ما يقوم به السيد حمدوك من زاوية الشك والريب، غير أن ما يدعو إلى الاستهجان والحيرة هو القدرة الفائقة لدى جماعات الحرية والتغيير في تلطيخ صورة الحكومة ورئيسها بالادعاءات الكذوبة والتوريط في أعمال ليس بينها وبين القانون واللوائح ونظم الدولة رابط.
هذا من جانب.. الجانب الآخر أن الحكومة نفسها في بعض وزاراتها كشفت عن مناطق اختلال يجب التعامل معها بصراحة ووضوح، فالوزراء يجب أن يتجهوا إلى العمل المنتج وإنتاج الأفكار والسياسات التي تقود إلى تحقيق إنجازات ملموسة وتخاطب تطلعات الشعب في تجاوز المشكلات اليومية في الأوضاع المعيشية والخدمات الضرورية وبناء الأمل في نفوسهم المنتظرة لما يبعث الاطمئنان، ولابد لنا من الإشارة إلى بعض الأخطاء القاتلة التي كان مبعثها التزيّد السياسي، مثل حديث وزير المالية الداعي إلى تعيين مائة ألف شاب لمراقبة الطلمبات ومحطات خدمة الوقود، بأي تفويض وتخويل قانوني وسلطة يحق للمائة ألف شاب مراقبة محطات الخدمة؟ ما هو القانون الذي يعطيهم سلطات وصلاحيات؟ هل هم سيتبعون للأجهزة النظامية، وكيف..؟ أم سيكونون تبع وزارة المالية رغم أنف لوائح الخدمة والتوصيف الوظيفي المحكم الذي يعطي لكل وظيفة في نظام الدولة وصفاً محدداً ومستوى محدوداً من التفويض.
وذات الوزير قال قولاً منكراً لا أساس له في المنطق الصحيح ولا القانون ولا حتى الرؤية الاقتصادية السليمة، ولا أدري كيف وقع صديقنا الناطق الرسمي باسم الحكومة ووزير الإعلام الأستاذ فيصل محمد صالح في خطأ الإعلان عن رأي زميله وزير المالية، عندما تحدث عن بيع ممتلكات وأصول ومنقولات المؤتمر الوطني لسداد ديون الصناديق العربية، فالفكرة نفسها فكرة بائسة ومضحكة للغاية، ولا ترقى إلى مستوى التعبير عنها، فضلاً عن كونها تخالف القانون وتسحقه سحقاً.
لو تُركت مثل هذه الأمور للتداول داخل مجلس الوزراء وألزم رئيس الوزراء وزراءه بنقاط محددة يتم من خلالها تلخيص ما يصدر من قرارات وروعي فيها البعد السياسي والتقدير والتوقيت السليم وتمت مقاربتها بالقانون وروحه، لما وقع الوزراء في هذه الأغلاط الفادحة، ولما صارت أقوالهم محل سخرية وتندّر ومَدعاة للجدل المُستنكَف… ليت سلوك الناشطين ينحسر ويبقى مسلك رئيس الوزراء ونهجه الهادئ في التعامل مع القضايا التي تحتاج إلى حكمة وتجربة وخبرة وحذاقة سياسية.