كامل عبدالماجد
kamilmagidzein@gamil.com
للمدن في ذاكرة الناس بصمات وذكرى, وفيها السالب وفيها الموجب والناس فيما يعشقون مذاهب، وقد ألهمت بعض المدن الشعراء منذ زمان بعيد، فقد خص الشاعر الكبير زحلة بقصيدة باذخة.. وتغنى علي محمود المهندس بجمال البندقية “رقص الجندول كالنجم الوضي فأشدو يا ملاح بالصوت الشجي”، وكتب الشاعر خليل فرح قصيدة في وصف ود مدني واتبعها بعد زمان برائعته “ما هو عارف قدمو المفارق وفيها يتذكر ويحن لأم درمان:
“من فتيح للخور للمزالق من علايل أب روف للمضايق
قدلة يا مولاي حافي حالق في الطريق الشاقي الترام”
ومن اللاحقين الذين كتبوا في ود مدني فضل الله محمد “أرض المحنة” وغناها المطرب محمد مسكين، فذاعت واشتهرت كما اشتهرت لاحقاً قصيدة كتبها الشاعر جمال عبد الرحيم “جاية من وين يا بنية وناوية على وين السفر.. قلتي لي مدني الجميلة مدني يا أجمل خبر”.. وفي وصف توتي وجمالها كتب الشاعر العبقري التجاني يوسف بشير، وكتب الشاعر العباسي في حمرة الشيخ “دارة الحمراء” و”النهود” و”مليط” و”الأبيض”، وفي وصف “أم بادر” و”رشاد” كتب الشاعر العبقري الناصر قريب الله أروع أشعاره.. وقد هام بجمال الأبيض أيضاً الشاعر ود القرشي ووصف جمال حدائق البان جديد كما كتب أيضاً في شندي، أما مدينة كسلا فقد استأثرت أكثر من غيرها من مدن السودان بقصائد الشعراء، وقد بدأ التغني بجمالها الشاعر الكبير توفيق صالح جبريل برائعته “حديقة العشاق”
“كسلا أشرقت بها شمس وجدي فهي في الحق جنة الإشراق..
كان صبحاً طلق المحيا ندياً إذ حللنا حديقة العشاق..
نغم الساقيات حرك أشجاني وأهاج الهوى أنين السواقي” كما كتب في حب كسلا من بعده مرتضى صباحي وهلاوي “مين علمك يا فراش تعبد عيون القاش”، وإسحق الحلنقي. وظفرت مدينة القضارف برائعة الشاعر كجراي:
“أحب ترابها وأذوب فيه كذوب الصبا في ريح الشمال
إلى البادوب ممطوراً أراني أهيم إلى دعاش من ثقالِ”
وهام بحب الخرطوم الشاعر عبد المنعم عبد الحي وعبد الرحمن الريح “زانت أرضها ألوان الزهور وأصبح بعضها ينافس بعضها”.
أما مدينة أم درمان فبجانب خليل فرح تعشَّقها معظم شعراء الفترة الماضية ومنهم عمر البنا “امتى ارجع لأم در واعودا” وتغنى بحبها عبد الله محمد زين “أنا أم درمان أنا السودان”.
أما المدينة الأولى في شعر شعراء السودان فهي بلا منازع مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد ألف في حبها والشوق لزيارتها شعراء المدائح آلاف القصائد غير أن حنينهم لها حنين صوفي.
وقد أدهش الشاعر الفذ محمد المكي إبراهيم الجمهور بقصيدته الرائعة في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم “مدينتك الهدى والنور”:
“مدينتك الهدى والنور.. مدينتك القباب ودمعة التقوى ووجه النور
وتسبيح الملائكة في ذوابات النخيل وفي الحصى المنشور”
لندن المدينة التي اخترتها عنواناً للمقال هذا هي المدينة التي أحببت بضبابها وشتائها الطويل وبالأمم التي استوطنتها من كل صوب وحدب, وقد أقمت بها حيناً من الدهر، وحين فارقتها طفقت أزورها في كل عام، وقد أقمت بها ردحاً من زماني سرعان ما التهمني نظامها الاجتماعي البديع وجرفني مدها الثقافي وصارت لي موطناً وملاذاً آمناً أحن في فترات للوطن ثم أنثني ويجذبني نظامها واصطخابها الجميل:
“تاني قاموا على الشوارع زينوها وبي وهج ضواي ملون حفلوها
ودوروا المزيقة برا صادحة رقاصة وشجية
وكل زول لي زول بريدو ربط هوبه”
غير أن صديقنا الشاعر الكبير د. الزين عباس عمارة الذي أقام فيها قبلي قال فيها شعراً مختلفاً فقد تبرم منها وتضجر بصورة كبيرة:
“ودِّع همومك إذ تودع لندنا
وارجع إلى السودان قلباً آمناً واترك على أرض المطار بطاقة اكتب عليها بئس مأوانا هنا”
ويسجل التاريخ للدكتور الزين انه أول من هجا وكال السباب للندن:
“أنفقت أيامي هنا متنقلاً أشكو ضياع النازحين المحزنا
أشكو سواد اللون بعض جريمتي أشكو جفاف الشعر أسود داكنا
يكفيك بؤساً أن تكون مهاجراً يكفيك سخطاً أن تكون مُلوّنا
فالقط أجدر بالرعاية والرضا والكلب أولى بالأمومة والهنا”
نعم كان الحنين للسودان الذي كان في زماننا ذاك في مصاف لندن يدفعنا لتعجيل الرجوع ويملأنا بالشوق إليه:
“في الحواري الماها هولك تمشي والناس ينظرولك
عني اهمسو وانت ساهي ولما تنظر ابتسمولك
كلو زولاً جنبو زولو وانت وين بالله زولك”
عدنا فرحين للبلد وماهي الا سنوات حتى تبدل حال البلاد وأضحى من أسوأ بلاد الدنيا تدهوراً وفشلاً في كل مضمار فاتجه حنيننا للندن التي غادرناها:
“يا أم ضباب أنا ما نسيتك إلا ليكي طريقة ما في
من حزمت متاعي متل طاشي في التيه والفيافي
أغفو بي صوت العواصف وأصحو بي صوت السواقي
والنهار أصليك سمومو نارو ما بطفيها طافي
والمدن يادوبة قامت من بعد نوم العوافي
ليلة غارق في سكونو ونورا قدر الفيها طافي
وانتي في غيمك تغني والجليد بالكلي صافي
قدلة يامولاي حالق في ضفاف التيمس وحافي
وسهرة يامولاي هاني تاني في الغرف الدوافي