قُضِي الأمرُ الذي فيه تستفتيان، وانتهى الجدلُ حول الوثيقة الدستورية بنُسخَتيْها، وتم اعتماد النسخة التي حوت ٧٨ مادة، وحُسم أمر تعيين رئيس القضاء والنائب العام بواسطة المجلس السيادي، واتضح أن قوى إعلان الحرية والتغيير بالفعل كانت تُمارس تضليلاً للرأي العام بنفيها التعديل الذي تم للوثيقة ووجود نُسختيْن مُختلفتيْن حتى عندما كشف عن ذلك وزير العدل. وواضح بعد كل هذه الضجة والجدال أن الأوضاع الدستورية في البلاد كانت في غاية السوء والاضطراب، حيث كانت البلاد تسير وِفق الوثيقة الأولى ذات الـ ٧٠ مادة التي تم توقيعها أمام الرؤساء والقادة والوسطاء، وبموجبها تم تعيين المجلس السيادي ورئيس الوزراء وحكومته، فكيف بعد كل هذه المدة يتم اعتماد وثيقة أخرى بأثر رجعي أُضيفت إليها ثماني مواد أخرى بعد قيام أهم مؤسسات السلطة الانتقالية!!
وما يَهمّنا ليس هو ما تمّ بالفعل من توافُق بين المجلسيْن السيادي والوزراء حول الوثيقة، إنما نهتم بمدى الالتزام بما جاء فيها والتقيّد بنصوصها وصون الحقوق الدستورية والاحتكام للقانون بعد أن اتضح أن هناك تفريطاً مُريعاً في الأطر الدستورية الحاكِمة والضابِطة للفترة الانتقالية ..
سينتج عن هذه الخطوة رغم حسم الجدل الطويل حولها، نقاش حامِ وواسعٌ جداً وعميق، ستترتّب عليه مواقف مختلفة في المداريْن السياسي والقانوني، بين الخبراء وأهل الفقه الدستوري والقانون، لتبيان وتوضيح أيٍّ من الوثيقتيْن كانت أكثر تعبيراً على ما اتُّفِق حوله سياسياً، وتم الإشهاد عليه دولياً، وكيف يُمكن أن يتّسِق البناء الدستوري مع مطلوبات المرحلة الانتقالية ومُقتضياتها السياسية والقانونية، وهذا الجدل سيتحوّل بالفعل إلى منصة عريضة تتكشّف فيها جميع الخطوات والأخطاء والترتيبات التي كانت تجري بين الشريكيْن وحالة الإنكار التي عاشتها قوى الحرية والتغيير حيال هذه القضية المُهمّة والحسّاسة .
مع أن الأخلاق السياسية الحميدة تستوجِب أن تُعلِن اللجانُ الفنية من طرفيْ الحكم عن المُلابسات التي أدّت إلى التعديل على النسخة الأولى الموقّعة المشهودة ولِمَ كانت دواعيه..؟ وتستعد للرد على أسئلة مشروعة وملحاحة تتمحور في إمكان أن يثق عامة الشعب في النخب السياسية والقانونية وهي تسدر في غيّها وتتلاعب في قضايا الدستور والقانون وتنظيم هياكل الحكم وبناء دولة المؤسسات؟ إذا كانت قوى إعلان الحرية والتغيير قد مارست الغش والخداع في (أبو القوانين) وهو الدستور، وسلكت سلوكاً يُعَدّ سابقةً خطيرةً في مسار السياسة والحكم بالبلاد ..
ليس هناك من خلاف أن من يتحملوا وزر ما تمّ في لجنة قوى إعلان الحرية والتغيير الفنية ومستشاريهم، لم يكونوا من أصحاب الدراية الكافية بالشؤون الدستورية المقرونة بالتحوّلات السياسية الحادّة ومراحل الانتقال، وليسوا من أصحاب الكفاءة والنجاعة المهنية والاطلاع الكافي على التجارِب العالمية المختلفة خاصة التي تشبه أوضاعنا وأحوالنا، ولذا أوقعوا أنفسهم والبلاد في هذا الموقف الذي نحن فيه الآن .