لم تطمر انشغالات السياسة وغِلظة الحياة تلك الوضاءة الزاهِرة في قلوب ووجوه وجباه السودانيين، ولم تتقطّع بهم السبل أو تتفتّت أكباد الوصال بما غشيتهم من غواشي الأيام والإحن، ولن تنسى الأجيال الحاضِرة ولا اللاحقة، وثيق الروابط والأواصر التي تجمع السودان وتنظم أجزاءه وأطرافه المُختلفة في مسبحة زاهية تشع كالعقيق مع الزمن، فأمشاج المجتمع السوداني ووشائجه مُتلاحِمة مُتداخِلة لا تشوبها شائبة لا يتقاصر بها هَم، وظلّت علاقات القبائل هي العمود الفقري المُمسِك بلحمة الوطن والحافِظ له ، فلولا هذه الصلات التي نسج عباءتها الأجداد والآباء عبر أزمنة وحقب مختلفة لتعرّى المجتمع ولنهشته نواهش الدهر وأنيابه، ولِما صِرنا هذا المجتمع السوداني الكريم الأرومات، الراسِخ المَنبَت، العظيم الخِلال، الأصيل الصفات، العَصِي أمام النوائب والملمات..
أمس كُنّا في مدينة رفاعة، وما أدراك ما هي..؟ بتاريخها وأهلها وسبْقِها و نضارتِها وما قدّمته على امتدادات الزمان والمكان، ذهبنا وفداً من وجوه وأعيان قبيلة الرزيقات، لتعزية أبناء عمومتهم في قبيلة الشكرية ولمواساة أهل المدينة وولاية الجزيرة وبوادي البطانة التي دهاها نبأ وفاة الناظر المغفور له بإذن الله شيخ العرب عبد الله محمد أحمد أبوسن ناظر الشكرية الذي تُوفّي قبل أيام، بين الشكرية والرزيقات صلة رحم ودم وأصل واحد، فالرزيقات من نسل (شاكر) والد جنيد الذي ينتمي إليه كل الجنيديين من القبائل أبناء عطية وحيماد، والشكرية من نسل شقيق شاكر (شكير)، وذاك رحم ودم وقربى، لم تفصل المسافة ولا فواصل الجغرافيا بين القبيلتين.
وقد شيّد زعماء القبيلتين، نُظّار الرزيقات من لدن مادبو علي وموسى مادبو علي وإبراهيم ومحمود موسى مادبو وسعيد، حتى الناظر الحالي محمود موسى إبراهيم موسى مادبو، ونظّار الشكرية من عهد عوض الكريم أب سن في العهد التركي المصري، وأحمد بك عوض الكريم أب سن وعوض الكريم أحمد عوض الكريم أب سن وعبد الله عوض الكريم أب سن وعوض الكريم عبد الله عوض الكريم أب سن، ومحمد عبد الله أبوسن ومحمد أحمد أب سن وعبد الله محمد أحمد أب سن الذي ذهبنا للعزاء فيه أمس وخلفه أخوه علي محمد أحمد أب سن الناظر الحالي.
الناظر المرحوم من رجالات الإدارة الأهلية الأفذاذ في السودان، فهو من أوائل خريجي كلية الزراعة جامعة الخرطوم، ونال الماجستير في علوم الزراعة من الولايات المتحدة الأمريكية، عاش في كنف والده الشيخ محمد أحمد أب سن ناظر القبيلة آنذاك ووزير الشؤون الاجتماعية في حكومة إسماعيل الأزهري الثانية عقب الاستقلال، وحكومة عبد الله خليل، عمل الناظر في عدة وظائف حكومية في وزارة الزراعة، وكان مديراً لمشاريع النيل الأبيض الزراعية ومديراً لمصنع كسلا للبصل، ومديراً لمصنع سكر سنار، ومصنع سكر حلفا، وتولّى قيادة القبيلة بعد وفاة والده، وعقب عودة الإدارة الأهلية، وكانت له علاقات واسعة جداً بكل قبائل السودان، بنى صِلاته مع الزعماء الأهليين والقبائل على برنامج واضح هو جمع وبناء المشتركات بين البطون والقبائل من أجل مجتمع سوداني مترابط يحترم تاريخه وخصائصه المُتفرّدة.
برحيل هذا الرجل، فقد السودان أحد رموزه وقياداته الأهلية التي كانت تمثل الحكمة والكياسة والحصافة والعلم والتاريخ ومعرفة الأنساب ودقائق الصلات والروابط الاجتماعية، وهو ليس خسارة لقبيلة الشكرية وحدها بل لمجتمعنا كله الذي يعيش الآن حالة من التراجُع وانفراط عقده الناظم.
في رفاعة أب سن، المُثقَلة بمجدها التالد والطريف، لم تختفِ ملامح العراقة والتاريخ العتيق عن المدينة، وهي موئل العلم والثقافة والآداب والفنون، لم تزل كما هي من عهدها القديم في السلطنة الزرقاء وهجرة القبائل إليها واختزانها لماضٍ عريق، حتى حاضرها الراهن، حيث لم تمح معالم عراقتها وسبقها في مجال التعليم الذي بدأته بالخلاوى والتقابات، ثم تعليم البنات الذي ابتدره الشيخ بابكر بدري، وما اختطه أبناؤها على وجه تاريخ السودان الحديث في مختلف مجالات الدعوة والفكر والسياسة والأدب والشعر.
ومن حظ رفاعة أنها ارتبطت بهؤلاء الرموز، ووفد إليها آخرون من بقاع السودان المختلفة فأعطتهم وأعطوها هذه القيمة الحقيقية النادرة.