كان عثمان القصاري رجل دنيا يحب مناسبات الأفراح ولا يغشى الأتراح إذا نما لعلمه زواج في منطقة بعيدة هب إليها مسرعاً يتفانى في خدمة ضيوف الحفل وهو لا يعرفهم، تجده ينظم الجلوس ويضرب النقارة ويغني مع البنات، لكنه لا يقترب من دفتر الدفع في سوق ايك وهو سوق موسمي يعمر بجودة الخريف ويتفرق رواده في الصيف يبيع عثمان القصاري شرموط الصيد المجفف والكجيك والتمباك، عندما تنشب مشكلة بين التجار والأغنياء يجد القصاري نفسه ضائعاً إذا وقف مع الفاضل الجلابي خسر علاقته مع التوم الأعرج، وإذا غضب الشرتاي عبد الرحمن عديل على التاجر عبد الصمد مختار أكبر تجار منطقة قليصة احتار القصاري ما بين مصلحته الآنية مع التاجر وخوفه من عواقب معاداة الشرتاي.
بلدنا السودان أصبح حاله مثل عثمان القصاري احتربت بلدان الخليج وانقسم أبناء العمومة بين معسكرين السعودية والأمارات من جهة، وقطر من جهة أخرى، وانتهت مرحلة عدم الانحياز، فكان مطلوباً من السودان الذي يقاتل بجنوده في اليمن أن يقف مع محور الأمارات والسعودية، ويقطع علاقته بقطر دون تردد مثلما فعلت مورتانيا وتشاد وإريتريا، وينتظر المقسومة إليه من المال الخليجي، وإما أن يقف مع قطر التي وقفت مع السودان في أيام عسره ودفعت من مالها المليارات وقدمت إليه حلولاً سياسية لمشاكله في دارفور.
وحار البشير ووزير خارجيته، ووقف في المنطقة الوسطى فنال غضب الإمارات العربية المتحدة والسعودية، ولم ترض عنه قطر التي وقفت إعلامياً مع الثورة التي اقتلعت حكم البشير ورمت به في غيابت الجب.
وفي المثل الشعبي يقال فلان، لا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم راضي عنه وسيدنا عيسى عليه السلام غاضب عليه، وبعد الثورة وقف العسكريون علناً وبقناعة تامة مع المحور الخليجي، ووضع المجلس العسكري كل بيضه في قفة الإمارات العربية المتحدة والسعودية التي لم تقصر معه أطعمته بالخبز ودلقت الجازولين والبنزين مجاناً حتى تفتقت عبقرية الكيزان لسلاح إفقار الحكومة والتضييق عليها بشراء الوقود ودلقه في النيل وشراء اللحوم ورميها للكلاب حتى تحدث ضائقة تؤدي لإسقاط النظام والشعب مصدق الثورة والثوار، ولكن الحكومة الانتقالية التي تتكون من عسكر ومدنيين أمرها آخر لا يزال المعسكر العربي وفياً للسعودية والإمارات ومصر، لكن المعسكر المدني الذي قوامه قوى الحرية والتغيير فتح له نفاجات ودريبات مع المعسكر الآخر، فالسيد عبد الله حمدوك رئيس الوزراء احتفى ومعه قوى الحرية والتغيير بلقاء الشيخ تميم بن حمد أكثر من احتفائه بلقاء الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وزاد الطين بلة لقائه السيد رجب طيب أوردغان زعيم الإسلاميين الأتراك، ولم يبث الإعلام السوداني حتى اللحظة لقاءات لحمدوك مع رؤساء دول وملوك من المعسكر الآخر السعودي الأماراتي.
وخلال الاحتجاجات التي شهدتها مصر وهي احتجاجات محدودة ليست كما وردت في الإعلام العربي الشامت أغلبه على السيسي، فإن قوى الحرية والتغيير كانت تقف مساندة للحراك المصري الذي استلهم من تجربة قوى الحرية والتغيير خطى ثورته التي لم تنضج طبختها بعد في المطابخ الإقليمية والدولية كما حدث في السودان.
أمس أعلن عن زيارة لرئيس الوزراء عبد الله حمدوك إلى دولة إثيوبيا الشقيقة التي عاش فيها الرجل اجمل أيامه، ومن أثيوبيا إلى قمة السلطة في السودان، فوفاءً لأثيوبيا تظل زيارة أديس أبابا ضرورة، ولكن من جهة أخرى فإن إريتريا تنظر بعين السخط لكل من يقترب من إثيوبيا، وإريتريا دخلت طرفاً مهماً جداً في معادلات الاستقرار في السودان وبيدها خيوط لعب ضاغطة وأوراق الشرق مبعثرة في الأراضي الأريترية، لذلك يبدو عثمان القصاري في موقف لا يحسد عليه مثل موقفه بعد الانتفاضة ١٩٨٥ عندما وقف عثمان القصاري وهو يهتف مع الجبهة الإسلامية القومية شريعة شريعة ولّا نموت، الاسلام قبل القوت، فنادى عليه صديقه إسماعيل ود رخية وهمس في أذنه يا القصاري انت ما عارف الشريعة لو طبقوها تاني مريسة سعيده أم جنقو إلا تسمع بيها في الحجا!
بهت القصاري وقال: الشريعة غادي في البحر البجيبها لينا هنا شنو!!
حكومتنا في محنتها الحالية إذا وقفت مع معسكر المال فهو معسكر معادٍ إيدلوجيا وسياسياً للديمقراطية وحق الإنسان في اختيار حكامه، وإذا وقف مع المعسكر “القطري التركي الإيراني” وقف على ذات الأرضية التي كان يقف عليها البشير، وإذا أمسك العصا من المنتصف تذكر ابياتاً لنزار قباني تقول: إني خيّرتك فاختاري ما بين الموت على صدري والموت فوق دفاتر أشعاري لا منطقة وسطى بين الجنة والنار