تقديرات الزيارة
اختلفت الرؤية حول مردود الزيارة الأولى لرئيس الوزراء عبدالله حمدوك إلى الأمم المتحدة، وليس الولايات المتحدة الأمريكية، وهناك بطبيعة الحال فصل تام بين زيارات رؤساء حكومات العالم لعاصمة العالم نيويورك وزيارة الولايات المتحدة، واعتبر بعض الصحافيين والكتاب والمراقبين أن مشاركة السيد حمدوك في أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة جاءت روتينية ولم تخرج من مسارات رؤساء دول بحجم السودان وأهميته السياسية والاقتصادية والجغرافية في المنطقة ومثل هذه المشاركات تكتسب أهميتها ومردودها بحجم اللقاءات الجانبية (علي الهامش) بين الرؤساء ورؤساء الحكومات فهل نجح عبد الله حمدوك من حصد نتائج يعتد بها في تلك اللقاءات التي لم تتعدّ بعض مساعدي وزير الخارجية الأمريكي والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وأمير دولة قطر ورئيس الوزراء التركي ووزير الخارجية السعودي، ولم يلتق السيد حمدوك الرئيس الأمريكي كما فعل طه عثمان الحسين عندما كان مديراً لمكتب الرئيس السابق عمر البشير، ولم تشمل لقاءات حمدوك رؤساء وزراء فرنسا وبريطانيا والنرويج كما كان يلتقي مصطفى عثمان إسماعيل، ولم يلتق السيد حمدوك برئيس جنوب أفريقيا ولا الرئيس النيجيري ولا أي من النمور الآسيوية.
ورغم ذلك يعتقد البعض أن زيارة حمدوك للأمم المتحدة تاريخية وتمثل فتحاً جديداً وترسم طريقاً للسودان ليعود إلى العالم بثوب ديمقراطي وأن سنوات القطيعة والعزلة قد غربت شمسها وأطل فجر جديد حتى خطاب السودان لم يعد بلسان عربي مبين، وقد تحدث حمدوك بلغة الإفرنج، واعتبر البعض لقاءات حمدوك على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة بمثابة فتحاً لأبواب كانت موصدة وغير ذلك من الأماني العذبة.
في واقع الأمر السودان دولة لا تشكل أهمية كبيرة للعالم كما نتوهم نحن السودانيين غفلة وادعاءات، فالدولة السودانية محدودة الموارد ولا تملك احتياطيًا نفطياً مثل العراق وليبيا وغينيا الإستوائية ولا الجابون ولا هي دولة تتحكم من خلال موقعها الجغرافي في المياه الإقليمية والدولية مثل جيبوتي والصومال ومصر وإيران ولا يعتبر السودان عربياً دولة ذات أثر مثل قطر ومصر والسعودية، ولابن خلدون رؤية حول الدولة الطرفية بعيداً عن رؤيته العنصرية للزنج عموماً
ولكن بالطبع للسودان أهمية في محاربة ما يسمى بالهجرة غير الشرعية، وهي قضية ظرفية عابرة، وكذلك له دور في الحرب على الإسلام السياسي، ولكنه دور محدود وهامشي، وقد حاول السودان لعب دور في إطفاء بؤر الحريق في جنوب السودان وأفريقيا الوسطى، ولكنه كان يناقض نفسه فكيف لدولة عجزت عن حل مشاكلها الداخلية أن تعالج مشاكل غيرها.
والسودان ظلت نخبه تبيع لشعبه الأوهام مثل القول بأن السودان يملك أغنى أرض في البسيطة ومناخه الأفضل لكل أنواع الزراعة وأن أنسانه فريد عصره وزمانه وهو يزهو بأنشودة تقول كيف يكون الحال لو ما كنت سوداني!! نعم، من حق أي إنسان الزهو بنفسه والإعجاب بأولاده والفخر بنسبه وأصله ولكن من الغفلة ألا يدرك حجم الحذاء الذي يناسب قدمه.
الدول الغربية لا تنظر الى وجوه رؤساء الدول وتسحرها ربطات العنق لكنها تبحث عن مصالح شعوبها، فما هي مصلحة شعب النرويج في سنكات وأم برو؟
في النظام السابق كان بعض المتوهمين وحتى بعض المسؤولين يعتقدون أن العالم برمته لا تشغله رفاهية شعوبه ولا تطور التكنلوجيا ولا حتى كرة القدم بقدر انشغاله بالسودان ونظامه الإسلامي وكيف يستطيع العالم إسقاطه.
والآن من أوهام الإسلاميين ننتقل لخطرفات اليسار الذي يظن وبعض الظن سذاجة وغفلة بأن كل الدنيا مبهورة بثورة السودان وكل رؤساء العالم يمنون أنفسهم برؤية حمدوك ومصافحته، وقد نشر إعلام قوى الحرية والتغيير صورة تضليلية تم تركيبها لرئيس الوزراء عبد الله حمدوك وهو جالس يتحدث ويقف أمامه الرئيس الأمريكي مندهشاً وحوله رؤساء حكومات بريطانيا وفرنسا وألمانيا ينظرون لحمدوك بعين الرضا والإعجاب بهذا الفتى الذي جاء من كوكب آخر وليس السودان الذي يكابد شعبه من أجل الخبز الحافي وجالون الوقود!!
العالم يا سادتي لا يثق في الحكومات الانتقالية ولا يفتح أبوابه للعابرين، وقد كتب المنصف المرزوقي مقالاً في أيام تكوين الحكومة الانتقالية نصح فيه الثوار بأن لا تتعدى فترة الانتقال الشهور الستة وبعدها تجرى الانتخابات حتى يختار الشعب حكومته، ولكن من يسمع في مناخات الثورة الهوجاء، لقد جددت الولايات المتحدة ذات تحذيراتها لرعاياها من زيارة السودان خشية وقوع أحداث عنف محتملة في السودان.
وراوغ المسؤولون الأمريكان في الاستجابة المجانية لطلب الحكومة الانتقالية برفع اسم السودان من لائحة الدول الراعية للإرهاب، وأبقت على هذا السيف معلقاً في رقبة السودان حتى يركع ركوعاً ما بعده قيام ويفي بالمطلوب تشريعًا وأمنا وسلاماً وتوجهات، والولايات المتحدة تعلم أن السلطة الانتقالية الآن بيد الحزب الشيوعي السوداني واستراتيجياً لا ترغب الولايات المتحدة رؤية المنجل المرسوم على الأعلام يرفرف في بلد غير كوبا وروسيا البيضاء وبعض دول أمريكا الجنوبية.
والولايات المتحدة بينها والمملكة المتحدة تنافس خفي وتنسيق ظاهر، وأمريكا تعلم جيدًا دور بريطانيا في التغيير الذي حدث في السودان وما دفعته لندن من جنيهات استرلينية من أجل التغيير والعلاقة التاريخية بين الإنجليز والحزب الشيوعي السوداني، كل هذه التعقيدات تجعل من انتظار مردود كبير لزيارة حمدوك للأمم المتحدة كالذي ينتظر إنجاب عجوز فوق السبعين ولدا يقر عيني أبيه.
ولنا عودة