تنساق حكومة السيد حمدوك وكثير من مؤيّديها وراء ما لا طائل تحته، وتنسى القضايا المُلحّة والمُهمّة، وفي مقدمتها الإصلاح الاقتصادي ومعالجة الأزمات المعيشية. وطلباً للتعويض النفسي عن غياب الرؤية الشاملة لوضع الحلول الممكنة والمتاحة، تلجأ قوى الحرية والتغيير المسؤولة عن تكوين الحكومة الحالية إلى التحليق في فضاء من الأوهام والزيف السياسي، وتسعى لتصوير الصغير من التحرّكات والاعتيادي من الواجبات كأنها فتح مبين ونصر عزيز، وهي تعلم أن حصاد ذلك قليل كسراب بِقِيعة يحسبه الظمآن ماءً، وتركت الجوقة السياسية للحكومة التحدّيات الماثلة أمامها، ولجأت إلى أسلوبين قديميْن باليين مُهترئيْن، الأول هو التركيز على الجوانب الشكلية ودبلجة الصور لإظهار أنها أحدثت اختراقاً خارجياً، وحقّقت نجاحات ستعود على البلاد بفوائد جمّة وبمالِ قارون، والثاني هو تعليق كل إخفاق على عدوٍّ مُتوهَّم هو الدولة العميقة التي يعلم الجميع أن وجودها كوجود الغول والعنقاء والخل الوفي.
لو أرادت حكومة السيد رئيس الوزراء النجاح ومن خلفه جوقته السياسية المعصوبة العينين، فليبدأ من حيث انتهى الآخرون، والتحلِّي بالشجاعة الكافية لمواجهة الأزمات الحالية التي أخذت بخناق البلاد، فالواقع يقول إنه لا يوجد برنامج اقتصادي مقنع وعملي وواقعي يصلح لدرء الخطر المُحدِق على البلاد، فالبداية غير واضحة ولا تعرف كل وزارات القطاع الاقتصادي من أين تبدأ، فوضع اللبنات لعلاج المُشكل الاقتصادي وإقناع المواطن به وحفزه على تحمّل وتقبّل آثاره، وحفز الناس للإنتاج والعمل، والسعي لتوفير الاحتياجات الرئيسة هو واجب الحكومة الآن، بدلاً من تعليق الإخافق على سلفها أو دلق الماء على (رهاب) المساعدات الخارجية التي لا تأتي ولن تأتي.
هناك مسافة فاصلة، وهي قصيرة جداً بين أن تنجح الحكومة في البدايات المُبشِّرة وبين أن تسقط مباشرة في هاوية الفشل المُبكّر، فمن الذي يُصدّق أن الحكومة حتى اللحظة لم تُعلن عن سياسات اقتصادية أو نقدية ولا مساعيها الجارية لتطبيق سياسة مالية سهلة التطبيق يهضمها السوق وتتعامل بها المؤسسات المالية القائمة، ونضع بها أرجلنا على الطريق الصحيح، ومن ذا الذي يُصدّق أن السياسة الخارجية التي ظهر حصادها في اجتماعات الدورة الحالية للأمم المتحدة، ستنعكس إيجاباً على البلاد، فكل الوعود السابقة من العالم الخارجي رغم قلتها وضآلتها، ليس هناك ما يُشير إلى أنها مُتحقِّقة ومُتجسِّدة كوعدٍ غير مكذوب، وطبيعة مثل تلك الوعود التي قِيلت وبُذِلت بطيئة مُتمهّلة لا تعطى سراعاً وخفافاً كما جرت على الألسن، كما لا تصلح ولا تصدق العبارات العامة التي يطلقها الدبلوماسيون من العالم الخارجي مثل الأقاويل التي تتحدث عن أن أكثر من خمسين دولة أعلنت في الأمم المتحدة دعمها للسودان، من السهل للمسؤولين وممثلي الدول في المحافل الدولية والجلسات الخاصة التي تُعقد في المنظمة الدولية حول إحدى بلدان العالم، أن يقولوا ما يشاءون دون أن يكون هناك التزام واضِح ومُحدّد بأجلٍ حول أي نوعٍ من أنواع الدعم والمساعدات..
كثير من الاجتماعات الخاصة عُقدت في مقر الأمم المتحدة حول بعض الدول التي تمُر بأزمات وظروف قاسية، لكن كل هذه الاجتماعات مُجرّد جلسات للعلاقات العامة، وتجلٍّ من تجلّيات النادي السياسي العالمي، ففي أكتوبر من العام 2014 عُقد مثل هذا الاجتماع على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة الدورة (69)، وخصص لدولة جنوب السودان وحضرته الدول الكبرى وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، وكان جنوب السودان أدعى للوقفة والعطف الدولي، لكن بمجرد انتهاء الاجتماع، نسي حتى المشاركين فيه ما قالوه داخل القاعة الفخمة ولا يزال جنوب السودان يعتصره العوز والفقر والحاجة وينتظر..
ولا تعدو الاجتماعات في الأمم المتحدة التي يعقدها الرؤساء والقادة وكبار المسؤولين في دول العالم المختلفة ، سوى سوق ومكان للالتقاء وتبادُل العروض السياسية وممارسة نوعٍ من التزيُّدات الدولية في أكبر مهرجان كلامي، دون أن تبرز تعهّدات موجبة بين طرفين، فالرؤساء والقادة تُحضَّر لهم مُسبقاً مواعيد بين فجوات الوقت والكلمات والاجتماعات، لزوم التسلية السياسية والحصول على أكبر قدر من الصور واللقاءات غير المفيدة المطلوبة لذاتها لملء برامج الرؤساء وقادة الوفود والعودة بحصيلة وافرة من العبارات المُعلَّبة والتمنّيات الطيبة دون أي ثمن يُدَفع .. فهم في مهرجان عالمي لعرض المواقف وتسويقها وليسوا في محفل خيري لتقديم المساعدات وإدخال أياديهم في جيوبهم.
فلتنتَبِه حكومة السيد حمدوك إلى قضاياها، وهموم الشعب الملحة، لتعتمد على عزيمة الجماهير في قهر الفاقة والفقر، وتحضُّ على تحمّل المعاناة حتى الخروج من نفقها، وأن تقدّم الحلول العاجلة والآجلة للأزمة الاقتصادية، بدلاً من الاستمتاع الكذوب بـ”المرجيحة” السياسية التي جلست عليها ..!