(1)
* فاجأ الحزب الاتحادي الديمقراطي المراقبين ووقع على اتفاق سياسي مع الحركة الشعبية قطاع الشمال برئاسة الجنرال عبد العزيز آدم الحلو.. وقعه نائبه الأول جوزيف تكة، فيما وقع عن الحزب الاتحادي جعفر الصادق الميرغني.. فما هي دلالات توقيع هذا الاتفاق في الوقت الراهن؟؟ ومن المستفيد؟؟ وهل الاتفاق مجرد نصوص علاقات عامة أم له مضامين ودلالات مهمة؟؟
بالنظر إلى وقائع الراهن على الطرفين، فإن الحزب الاتحادي الديمقراطي قد تم عزله عن إدارة الفترة الانتقالية وإقصاؤه من دائرة التأثير على الأحداث منذ سقوط النظام السابق الذي يمثل فيه الحزب ثاني أكبر كتلة سياسية بعد المؤتمر الوطني.. ولكن الحزب الاتحادي لم يتعرض أي من قادته للاعتقال في سجن كوبر.. ولم تطل الاتهامات بالفساد أي من رموزه وقادته، لكنه تعرض لمحاولة اختطاف لاسمه من قبل منشقين عن الحزب الأصل كان لهم دور مهم في الاحتجاجات التي بدأت منذ 2013م، وقيادات الحزب الاتحادي بالأصالة مثل جعفر حسن وعلي محمود حسنين رحمة الله عليه، ومحمد الفكي سليمان لا ينكر منصف بلاءهم في مواجهة النظام السابق وهناك اتحاديون برافعة يسارية مثل محمد ناجي الأصم وبابكر فيصل.. وهؤلاء مهما كان تعسفهم مع الاتحادي الأصل وسعيهم لاختطاف اسم الحزب الذي نال أكبر عدد من أصوات الناخبين في انتخابات 1986م يبقى الأصل أصلاً والفرع يعود لأصله، والحزب في مثل هذه الظروف العصيبة في حاجة إلى العودة مسرعاً إلى الساحة السياسية حتى لا يفقد بريقه وجماهيره..
وتوقيع الحزب على اتفاق مع الحركة الشعبية الأصل يمثل إعلاناً عن وجود الاتحادي في الساحة.. في ذات الوقت الحركة الشعبية بقيادة عبد العزيز الحلو التي تعيش عزلة من الرفاق القدامى في الجبهة الثورية، وبعد إعلان رفضها المشاركة في اجتماعات الثورية بالقاهرة التي تهدف إلى نقل مفاوضات الثورية والحكومة إلى القاهرة بدلاً من جوبا.. وتمسك عبدالعزيز الحلو بالبعد الأفريقي ورغبته في إجراء المفاوضات في جوبا وبرعاية ثلاثية من جنوب السودان ويوغندا وإثيوبيا وعدم حضوره اجتماعات مصر.. وضع الحركة الشعبية في حرج بالغ مع حلفاء عرب يملكون الثروة وبمقدورهم تقديم مساعدات كبيرة للمنطقتين ودارفور..
وتوقيع الحركة على اتفاق سياسي مع حزب حليف للقاهرة تاريخياً وتعتبره مصر جزءاً من وجودها في السودان الذي تعرض لمحاولات دؤوبة للقضاء عليه ثقافياً واجتماعياً وعسكرياً ومعلوماتياً.. ولذلك توقيع الاتحادي اتفاقاً مع الشعبية من شأنه خدمة انشغالات الطرفين.. ومصر منذ فترة ليست بالقصيرة ظلت تسعى لإعادة وحدة الحزب الاتحادي الديمقراطي بكل أجنحته.. والقاهرة على يقين بأن الاتحاديين حزب يمكن الرهان عليه في أي استحقاقات انتخابية إذا تجاوز الحزب مشكلاته التنظيمية التي قعدت به..
وظلت هناك جهات داخل الحزب تبث أخباراً عن استقطابات لرؤوس كبيرة في الساحة السودانية، فتارة هناك حديث عن استقطاب الفريق صلاح قوش، وتارة الحديث عن استقطاب الفريق طه عثمان الحسين، مع أن الأخير أقرب وجدانياً للاتحادي، وهم في حاجة لشخصية تجسر العلاقة بين الاتحادي ودولتين مهمتين في التأثير على السودان “السعودية والإمارات”، وقد أثبتت الأيام أن مفتاح العلاقة مع هذه الدول في جيب طه عثمان؟!
أما مضمون الاتفاق الذي وُقّع فقد جاء فيه تنسيق المواقف بشأن الانتخابات المقبلة والعمل المشترك لتأسيس دستور دائم للبلاد يضمن الحقوق والحريات وحرية العقيدة واتفق الحزب والحركة على استمرار النضال المشترك بينهما من أجل تحقيق السلام والتحول الديمقراطي، وتعاهدا على السعي المشترك لإنهاء الحرب في المنطقتين بمخاطبة الجذور المسببة لها.. مؤكدين دعمهم للتفاوض الجاد للوصول لاتفاق سلام عادل وشامل يفضي إلى التحول الديمقراطي والتداول السلمي للسلطة عبر انتخابات حرة ونزيهة بعد انتهاء الفترة الانتقالية، واتفق الطرفان على إطلاق مشروع مشترك لتعزيز ثقافة السلام والتعايش السلمي بين مكونات المجتمع ونبذ القبلية والعنصرية فضلاً عن تشكيل لجنة مشتركة منذ الآن للعمل على الدستور الدائم واحترام الحريات الدينية والاستعداد للانتخابات المقبلة والتنسيق في المواقف بينهما.. والفقرة الأخيرة من بيان الاتحاديين والحركة الشعبية تمثل أهم نقاط اتفاق القاهرة، فالانتخابات القادمة ربما شهدت لأول مرة دخول قوى الحرية والتغيير كتحالف عريض بوجهه “العلماني” ككتلة جماهيرية واحدة تسندها قوى الثورة الشبابية بزعم تنفيذ شعارات الثورة التي عجزت عنها حكومة حمدوك وهذا التحالف سيخوض معركته مع الإسلاميين لأسباب إيديولجية محضة، وربما صرفته هذه المعارك عن بناء نفسه والتأسيس للانتخابات العامة.. ووجود كتلة سياسية وسطية تتألف من الحزب الاتحادي الديمقراطي والحركة الشعبية “شمال” بقيادة عبد العزيز الحلو وحركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد نور وحصول هذا التحالف على الدعم السياسي والمعنوي من دولتين مثل مصر وجنوب السودان من شأنه مباغتة تحالف قوى الحرية والتغيير الذي فشل في إحداث أي اختراق حقيقي في مناطق نفوذ الحلو بجبال النوبة وعبد الواحد في دارفور بل في جبال النوبة انعطفت قوى الحرية والتغيير نحو “المكون العربي” على لسان النوبة.. وجاء تمثيل قوى الحرية والتغيير “مأزوماً” يحمل في أحشائه اسباب شقائه.. والحزب الاتحادي الديمقراطي تاريخياً ظل قريباً من جبال النوبة، وله نفوذ سياسي كبير بفضل الطريقة القادرية في المنطقة الشرقية بل فاز الحزب بدائرة ريفي البرام عندما فاز مختار الأصم وفاز في دائرة دلامي في انتخابات 1967م “مركزو كوكو” المعلم والمربي لا مركزو الجنرال الذي ولى وجهه شطر الحركة الإسلامية، وفي دارفور يعتبر الفور تاريخياً موالين للاتحاديين حتى أصبحت دائرة كاس جبل مرة مرتبطة باسم الحزب الاتحادي والنائب الشهير أبّو منصور، فهل يعيد هذا الاتفاق للحزب الاتحادي حيويته في الساحة السياسية؟؟
أما الحركة الشعبية، فإنها بحاجة إلى مصر التي جاء وفدها إلى هناك وانخرط في اجتماعات مع القيادة المصرية، وقد ضم وفد الحركة عمار أمون وكوكو جقدول، وسيلا موسى كنجي، والجاك محمد أحمد، وتجسير العلاقة مع مصر ضرورة للحركة الشعبية، وهي تقبل على التفاوض في الرابع عشر من اكتوبر القادم..
(2)
إذا كانت مصر قد خسرت كثيراً من أراضيها لسوء تقدير قيادتها السابقة “حسني مبارك” عند إجراء مفاوضات نيفاشا التي أدت في نهاية الأمر لانقسام جنوب السودان، فإن مصر بدعوتها الآن للجبهة الثورية والحركة الشعبية واقترابها من الإمساك بخيوط هامة جداً في مسار التسوية وتجسير علاقتها بمكون العسكريين داخل المجلس السيادي ذلك ما ظل يشكل نقطة ضعف كبيرة في أداء حكومات مصر السابقة، بيد أن الفريق السيسي الذي يعتبر أكثر رئيس مصري زار السودان حتى أكثر من ابن السودانية الرئيس السادات، فقد أثبت السيسي حسن تقديره للأوضاع في البلاد.. وفتحت مصر أبوابها لقادة السودان في الحكم والمعارضة.. ومثلما كانت مصر هي الملاذ لقادة الحكم بعد سقوط الديمقراطية الثانية، فمصر كانت هي الملاذ أيضاً لعدد كبير من قادة البلاد بعد أبريل 1985م.. وبعد يونيو 1989م، لذلك الوجود الحالي لبعض قادة النظام السابق وجود طبيعي، وحتى قادة النظام الجدد كانت غالبيتهم من المقيمين في مصر طوال 30 عاماً.. ومصر تعلم أن الفروق الجوهرية بين الإسلاميين المصريين والسودانيين لمعرفتها بخصائص الشخصية السودانية وقادة حزب المؤتمر الوطني الأقرب للإصلاح السياسي منهم للإصلاح الاجتماعي.. وهناك مشكلات في المفاهيم الثورية لقوى الحرية والتغيير وأسباب ضعف العلاقة مع مصر مقارنة بالعلاقة الوثيقة جداً مع الفريق البرهان والفريق محمد حمدان دقلو حميدي.. فالبرهان لم يمد جسور التواصل مع فرقاء مصر في المنطقة ونعني قطر عربياً وتركيا إسلامياً.. بينما مدت قوى الحرية والتغيير جسور التواصل مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ومع الشيخ تميم بن حمد آل نهيان ومع رئيس الوزراء الأثيوبي أبي أحمد.. وأثناء التظاهرات والاحتجاجات الأخيرة في مصر وهي على محدوديتها وقلة تأثيرها وجدت سنداً معنوياً وإعلامياً من قوى الحرية والتغيير، الشيء الذي يجعل مصر تمد جسور التواصل مع كل القوى السياسية في الساحة السودانية، وفي مقدمة تلك القوى الحزب الاتحادي الديمقراطي وحزب الأمة والمؤتمر الوطني وحزب المؤتمر السوداني والحركة الشعبية..
(3)
تمثل لقاءات الفريق محمد حمدان دقلو عضو مجلس السيادة في مصر خلال آخر أيام المجلس العسكري خطوة مهمة في سياق الدور الذي يقوم به حميدتي لتحقيق السلام في السودان.. والخطوة التي أقبلت عليها مصر بدعوة قادة الحركات المسلحة جاءت بعد توقيع الاتفاق الذي يؤسس لمبادئ حل سلمي لقضايا النزاع في السودان والذي وقعه حميدتي مع قادة ما يعرف بالهامش، ولكن في الوقت الذي اقتربت فيه خطى السلام في المنطقتين “جنوب كردفان والنيل الأزرق” ودارفور، فإن تفجيرات سياسية وفرقعة إعلامية أعقبت زيارة الرئيس الإريتري أسياس أفورقي شهدها شرق السودان من خلال خروج تظاهرات واحتجاجات في مدينة كسلا تطالب بحق تقرير المصير لثلاث ولايات سودانية، ورغم أن الكثيرين هنا في الخرطوم ينتابهم شعور بأن “تفجيرات” الشرق ما هي إلا واحدة من “صياغات” الضغط الانتهازي على المركز من قبل بعض قوى الهامش لشعورها بضعف المركز، وإذا كانت قوى الحرية والتغيير قد حققت أغلب مكاسبها بالشارع وضغطه الشعبي وتسخير قاعدتها في تحطيم خصومها.. فإن أحداث شرق السودان قد أحدثت زخماً في الشارع السوداني والعربي خاصة بعد أحداث العنف القبلي بين مجموعتي البني عامر والنوبة، وذهبت بعض التقارير لاتهام دولة الإمارات العربية بتشجيع بعض الاتجاهات الانفصالية في شرق السودان، وفي عجلة وسهولة إطلاق الاتهامات ربط البعض بين مواقف دولة الإمارات العربية في اليمن الجنوبي وشرق السودان بوقوف أبوظبي مع عودة اليمن الجنوبي القديم، وربط البعض سفر القيادي في مؤتمر البجا عمر محمد طاهر إلى أبوظبي خلال الفترة الماضية وبين ما حدث على الأرض، ولكن تنقل السودانيين بين البلدان العربية كما هو حال مصر لا يعني أن ثمة ارتباط سياسي بأحداث بعينها، والإمارات ليست لها مصالح مباشرة في تفكيك السودان رغم ما يثيره البعض من تنافس بينها ودولة تركيا حول الموانئ على ساحل البحر الأحمر، ومصر هي حليف الإمارات الأول في المنطقة وحتى مفاوضات العين السخنة التي جرت بين الحكومة المصرية والجبهة الثورية.. الإمارات والسعودية على صلة مباشرة بها.. وقراءة المشهد السوداني كلياً تشير إلى أن المسرح السياسي حافل بالمشاهد الحية من اقتراب مكون قوى الحرية والتغيير من قطر وتركيا.. وتقارب مصري مع قوى الكفاح المسلح.. وعودة الحزب الاتحادي الديمقراطي إلى الساحة مرة أخرى من خلال تحالفه مع الحركة الشعبية..