إن شا الله عمرك يطول متل مجاري البحور!!
«أ»
كان يغرق في تصاوير سقوف المدينة.. أتانا ذات ضحى أبلج وراء خطاه ريح خريف تجري.. فتى دقيق البنية، طويل القامة نحيل مثل عود الخيزران، يمشي متعجلاً يتراقص في مشيته كرمح محارب من الماساي وسط سهوب لا حدّ لها ولا نهاية.. ابتسامته لا تفارقه.. كأنه يهزأ من الدنيا والناس.. لا ندري لماذا كل ملابسه من لونين فقط البني الفاقع والأصفر الأقرب للكآبة المقيتة.
ألقى به قطار آتٍ من اتجاه الشرق.. ليكون بيننا في داخلية مدرسة الضعين الثانوية بنين، منتصف عام 1983م، وكانت المدرسة تضم طلاباً من كل أصقاع السودان ونواحيه ونواصيه وأقاصيه، منذ يومه الأول في المدرسة عرف الجميع أن هذا الفتى القادم من مدينة أب زبد في كردفان ذو صوت شجي وغناء طروب.. لأنه كان لاهياً عن الجميع، بالجلوس وحده يغني لنفسه بصوته الجميل.. وكأن مسمع الكون كله كان معه.. وصوت الفيتوري وراء أفقه غير المرئي يقول:
كما مغنٍ مع الفجر ينحت تمثاله خلف سور السماء..
والفجاءات تسبق الحلم..
من ذا يطرق الآن باب السكوت عليك
وأنت الذي لوحته المسافات
باب السكوت عليك
اعصفي خارجاً كيف شئت
غداً تشرب الأرض طوفانها
«ب»
حزن غريب يسكن عينيه، لكنه سرعان ما مزج نفسه في أجواء الداخليات، وصار فنان المدرسة الأول في احتفالاتها وأمسيات الطلاب الخاصة ومناسبات التكريم واحتفال نهاية العام ووداع الصف الثالث، ثم ذاع صيته في المدينة، وبلغ من اشتهاره الطلب عليه ليغني في بعض المناسبات الاجتماعية والزيجات خارج المدرسة.
وكان زين العابدين وهذا اسمه، أضخم مشروع غنائي قدمته المدرسة الغائرة في الجزء الشرقي من المدينة للناس والمجتمع والدنيا، وحاول بعض الطلاب في الصف الثالث من ذوي التجربة والخبرة وهو مازال في السنة الأولى تشجيعه ورعايته، خاصة زميلنا عيسى موسى القادم من قرية أبو خضرة على ضفاف النيل الأبيض، وكان مثقفاً ومبدعاً وعلى إلمام واسع بالأغنية السودانية وكنزها الثمين.. وقد سعى عيسى موسى إلى توجيه الموهبة إلى الدرر الفنية والغنائية، وكل ذلك بالسليقة الفطرية التي توفرت للاثنين معاً.
وحاول صديقنا وزميلنا إسماعيل حسن موسى الذي كان مجيداً وبارعاً في اللغة الإنجليزية، تحويل دفة زين العابدين للغناء الغربي، ومطربي ذلك الزمان من سيف وندر وجيمي كليف وبوب مارلي ورفقة البتلز والبي جيز والإبا والبوني إم، لكن فتى أبو زبد كان مشدوداً إلى جاذبية الأغنية السودانية، ولم تفلح كل محاولات اسماعيل واجتهاداته.
ولتلقينه الفن الشرقي كان زميلنا ياسر السيد مدني يحضر مسجلاً من ماركة ناشيونال، ويشتري حجارة بطارية، ليسمع زين العادين مقاطع من «حاول تفتكرني وأهواك وقارئة الفنجان» لعبد الحليم حافظ وأغنيات منسية خفيفة لأم كلثوم، وأخرى لا يعرفها السودانيون كثيراً للعراقي المدهش ناظم الغزالي وبعض من أغنيات فيروز ومسرحياتها.. وبدا ياسر السيد مدني مثل عراب لا يفتر يريد زرع مزاجه الموسيقي العربي في تربة فنان يافع قادم من سهول كردفان وغناء دار حمر وهسيس وجراري دار الريح ومردوم البقارة في الصعيد.
«ت»
ثلة من المغنين خاملي الذكر في المدينة، أغوت الفتى اليافع، فصار كثير التغيب عن الحصص، ولم تكن المدرسة النائية في ذلك الوقت على درجة عالية من الانضباط لظروفها الخاصة، ثم صار لا يوجد في الداخلية أغلب الأوقات في الليالي الطويلة، وكثيراً ما يفقده زملاؤه في العنبر الطويل حين لا يجدونه في سريره، وكان عبارة عن عنقريب ضئيل متقاصر إلى الأرض عليه لحاف مهترئ وغطاء قديم وبطانية سوداء يتوسدها ويتغطى بها في الشتاء من تلك التي كانت توزع على قوات الشعب المسلحة « ق. ش. م».
ووجد طريقه مثل الشهاب، في جلسات المدينة الساهمة، مع مجموعات من هواة الفن والغناء في بيئة لم تكن تحفل كثيراً بهم، وكان رواد جلساتهم وهم يفترشون الأرض في أطراف المدينة وعند محطة السكك الحديدية والرمال الناعمة والباردة، من مساعدي اللواري السفرية القادمة من أم درمان والأبيض وكوستي أو شباب أغرار.. وكانت هذه هي البروفات التي يستعدون بها لبعض الحفلات في ليالي المدينة.
وكثر غياب زميلنا.. ثم راجت أنباء عن مقدمات انحراف ظاهر فيه، بتدخينه للسجائر وربما الحشيش، وأنه قد فاحت منه رائحة خمر، لكنها كانت أقاويل لم تثبت ولم نتثبّت منها، واحتار من سعى إلى ترويض هذه الموهبة المتفتقة، زميلنا عيسى موسى تعامل معه بلطف وقدم له النصائح عساه ينتبه للدراسة ويطلق لموهبته الغنائية العنان في أوقات فراغه، وإسماعيل حسن موسى ظن التدخين والحشيش ربما يكون من تأثر الفنان بمروياته وحكاياته التي يقولها له عن «الراستافاراي» وغناء البحر الكاريبي الذي غزا الأسماع آنئذٍ.
وياسر السيد مدني أوشك أن يقتنع بأن الفنان الناجح لا بد له من انحدارات إلى قاع الحياة وهي مجمرة الفن وضريبته، كان مسرفاً ومغالياً في تلك الرؤية والفكرة، وكان غضوباً عن تذكره محاولاته مع فناننا اليافع ويسرف في التعبير عن عدم رضائه عند تذكره، أن الفتى الفنان لم يستسغ مزاج الأغنية الشرقية وألحانها، بالرغم من تشابهات بعضها مع اللحن الكردفاني في مناطق ترعرعه وانتمائه.
«ث»
ازداد الفتى نحولاً.. وشحب لونه من طول السهر.. وصار يعاف الأكل، ويكثر من النوم نهاراً في عنقريبه الضئيل الصغير، ويغيب عن الحصص، وتناوبته نزلات البرد والكحة والملاريا، لكنه كان ذا تصميم غريب على الإبحار بشراع بدائي في موج الغناء والفن والموسيقى، وكان لدينا أستاذ رياضيات مصري الجنسية يسمى عبد الرحمن ضخم الجسم مثل مصارع ياباني، يقول لنا دعوه فلكل فنان موهوب قصة تشبه هذا الفتى.. لكنه في نهاية العام لم يجلس للامتحانات، وعندما عدنا في بداية العام الدراسي المقبل وجدناه قد فصل من المدرسة، ولم يعد له وجود.
وبعد انتظام العام الدراسي هبط من قطار بضائع في ظهيرة يوم قائظ، وجاء إلى الداخلية، حفته مشاعر الترحيب، وكانت لديه متعلقات بسيطة يريد حملها، وفي لحظة حزينة حمل معه عنقريبه وتلك المرتبة النحيلة مثله، وأعطى البطانية السوداء لخفير المدرسة، وتوارى خلف أشجار الغبيش التي تحيط بالمدرسة وغاب مثل قمير عمر بين أبي ربيعة في قصيدته الرائية الشهيرة «وغاب قمير كنت أرجو غيوبه».
في الأيام الأولى لرحيله عن الداخلية كنا نجده في السوق الكبير بوسط المدينة ومساءً في بعض المقاهي الليلية والمطاعم، وكان ليل المدينة ضاجاً بعربات الأسواق طوال أيام الأسبوع في المدن والقرى خارج الضعين «ام دورور»، ونجده في محطة السكك الحديدية عندما يأتي القطار من وإلى نيالا.. ورأيناه وسمعناه يغني في بعض المناسبات، ونصحه بالبعض بأن يعود إلى أهله.. لكنه لم يسمع لأحد.. ولم يلبث إلا بعضة أسابيع واختفى.
«ج»
ومضت السنوات.. وطوى الزمان صفحات ونشر أخر.. وبينما كان زميل دراسة من ذلك الوقت في الأراضي المقدسة لأداء العمرة قبل عام، صادف رجلاً طويلاً نحيلاً.. بهي الوجه من وضاءة الصلاح والنقاء.. مقيم في المدينة المنورة.. هو وحمامات المسجد النبوي سواء لا يفارق الروضة الشريفة ولم تفته صلاة.. كان يعرف هذا الوجه الذي تحول من تلك الملامح الطفولية إلى وجه متبتل مأخوذ بعرفان مهيب.
كان الرجل صديقنا القديم.. وحكى لصديقنا المعتمر حكاياته.. كيف انزلق إلى الهاوية.. ليس بسبب الغناء.. لكنه غادر إلى واو في النصف الأول من الثمانينيات من القرن الماضي.. صار فناناً في المدينة ثم إلى دولة إفريقية مجاورة لجنوب السودان.. وانغمس هناك في كل موبقات الحياة.. ودخل السجون وضاع في ضباب الحياة..
وفي قلب تلك الآجام والآكام والغابات.. في شمال تلك الدولة.. جاءت قافلة إغاثة من دول إسلامية تتبع لإحدى المنظمات.. وجدوه في تلك القرى الغائرة في الغاب، عمل معهم لفترة قصيرة.. واستفزه شيخ كبير طاعن في السن آتٍ من المجهول من إحدى قبائل تلك الأصقاع الإفريقية وسط الأدغال، من أقلية يعلم نفسه قراءة القرآن الكريم بالطريقة الصحيحة، وطلب منه الشيخ أن يعلمه قراءة القرآن وأن يصحبه معه لقريته ليصلي بقلة من المسلمين هناك.
ونبضت المضغة التي في الصدر بنور الحق مرة أخرى.. وتمشت في الدماء روح تمت.. واخترق شعاع الهداية شغاف القلب.. وانزاحت غشاوة استمرت لسبع وعشرين سنة، وسط بقاع بعيدة مظلمة وغاب إفريقي كثيف الأشجار والأحراش والظلمات والظلام.. ثم تنهد.. صرت إمامهم ومؤذنهم.. علمتهم ما أعرفه.. . وهأنذا هنا قرب رسول الله أتعلم المزيد ثم أعود إليهم لأقضي سنوات عمري الباقية معهم.. فهناك من يحتاجني.. ثم قال: «أما الغناء فصوتي صار لله.. ما أعذب الدعاء والتضرع به ومناداته به في تلك البقاع شديدة الحلكة والعتمة»!!