مِنَ المفاهيم (الشائعة) لدى كثير من الناس.. أن (الشريعة الإسلامية) تعني عندهم إذا تحدثوا عنها: (العقوبات).. وذلك فيما يتعلق بتطبيق الحدود الشرعية والتعزيرات على الواقعين فيما يوجب إقامتها عليهم، كالجلد للزاني غير المحصن وشارب الخمر والقاذف والرجم للزاني المحصن والقطع ليد السارق.
هذا الفهم – للأسف الشديد – له حضور واسع!! وانتشار كبير لمصطلح (الشريعة)!! فأصبحت كلمة “الشريعة” في قاموس كثيرين إذا ذكرت تعني تطبيق هذه العقوبات.. سواء كان ذلك بلسان الحال.. أم بالتصريح بلسان المقال.
وهو بلا شك.. ظلم كبير وتعدٍّ واضح وجناية على شريعة الإسلام التي ختم الله بها الشرائع ورضيها ديناً لخير أمة أخرجت للناس..
وقد ترتب على هذا الفهم (الواسع الانتشار) والمتجذِّر في إفهام بعض الناس!! آثار سلبية كثيرة.. لا تخفى.
إنّ الحدود والتعزيرات وما ورد في باب العقوبات هو (جُزءٌ من الشريعة)، وجانب واحد من جوانب كثيرة ومُتعدِّدة، ومن قرأ أصغر كتاب في الفقه علم ذلك.
إذن لماذا يصبح (البعض) هو (الكل)؟! و(الخاص والجزئي) هو (العام)؟!
إنّ على من أخطأوا في تفسير معنى (الشريعة الإسلامية) أن يدركوا أن شريعة الإسلام هي ما شرعه الله تعالى لعباده في كتابه وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام فهي الشهادتان ومضمونهما ومعناهما ومُقتضاهما وهي بقية أركان الإسلام من الصلاة والصيام والزكاة والحج وهي أركان الإيمان من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر فهي امتثال أوامر الله تعالى واجتناب نواهيه.. وهي عبادته وطاعته عز وجل وإفراده بالتوحيد والنهي والتحذير عن الشرك بالله تعالى، ويدخل في ذلك تحليل ما أحله الله لعباده من الأقوال والأعمال والمُعتقدات والعمل به، وتحريم ما حرمه عليهم من الأقوال والأعمال والمُعتقدات والبُعد عن ذلك، فالعمل بالقرآن عملٌ بالشريعة والتّمسُّك بسُنة نبيه عليه الصلاة والسلام هو من العمل بالشريعة.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم شعائر هذه الشريعة، وتركه أو التقصير في العمل به إخلال بهذه الشريعة، بل هو من أسباب خيرية هذه الأمة (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ).
والعدل بين الناس هو من العمل بالشريعة وتحري تطبيقه بينهم على اختلاف أحوالهم هو مما أكّدت الشريعة على العمل به.. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) ولذلك سطّرت في صفحات التاريخ الإسلامي كلمات رائعة وشهادات باهرة من غير المسلمين وذلك لما كانوا يعيشون بين المُسلمين وتحت حكمهم وفي ذمتهم، وكم نحن بحاجةٍ في هذا الزمان إلى أن تنشر بين الناس بعض تلك القصص العظيمة والتي من شأنها بتوفيق الله أن تتغيّر بها كثير من المفاهيم الخاطئة في هذا الجانب.
والرحمة بالخلق من العمل بالشريعة ولذلك فقد أكّدت الشريعة على هذا الأمر وحذّرت من الإخلال به وجاء الوعيد في أحاديث كثيرة بأن من لا يرحم لا يُرحم، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء.
وتطبيق أحكام الإسلام في المال فيما يتعلّق به مورداً ومصرفاً وأهلاً واستحقاقاً هو من العمل بالشريعة، ولو كان التطبيق في هذا الجانب مُستقيماً لقلّ وجود الفقراء في مُجتمعات المُسلمين بل ربما لم يوجد من يستحق أخذ الزكاة!! كما دوّن ذلك في التاريخ الإسلامي.
وقد علم كثيرون بعد أن كانوا لا يعلمون علموا بعظم التشريع الإسلامي ومُناسبته للناس على مُختلف أزمانهم وأمكنتهم في قضايا الاقتصاد والمال بعد أن رأوا بأعينهم الفشل الذريع للنظرية الاشتراكية الشيوعية في المال والاقتصاد، والتي أعقبها التدري والسقوط المريع في النظرية الرأسمالية الغربية وما الأزمة الاقتصادية الأخيرة إلا شاهد من شواهد ذلك.
كما أنّ إحقاق الحق وإبطال الباطل من العمل بالشريعة الإسلامية، ونصرة المظلومين وإيقاف المُعتدين عند حدِّهم أيّاً كانوا هو من العمل بالشريعة الإسلامية، وبر الوالدين وصلة الأرحام وتحري الصدق، وتحريم شرب الخمر والغش والرشوة وأكل الربا وأكل أموال الناس بالباطل إن تحريم ذلك وغيره هو من العمل بالشريعة.. ورأس الأمر في الشريعة الإسلامية أن يعبد الله وحده ولا يُشرك به شيئاً وهو الغاية التي خلق الله تعالى لأجلها جميع خلقه، وهو ما دعا إليه جميع الأنبياء (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)).
ومناقضة ذلك بالإشراك مع الله غيره، وإعطاء حقه جل وعلا لغيره من خلقه الضعفاء هو أعظم ما تخالف به الشريعة، وهو أعظم الظلم (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).
والعمل بالأخلاق الفاضلة والكريمة التي حَثّ الإسلام عليها وحذّر من ضدها والتي منها إكرام الضيف والإحسان إلى الجار ومُساعدة المُحتاجين ولين الجانب والرفق وأداء الأمانة والصبر والحياء وغير ذلك هو من العمل بالشريعة الإسلامية.
وبالجملة فإنّ الشريعة تعني الأخذ بما جاء في مصدريْ التشريع (الكتاب والسنة) والعمل بهما، من العقيدة والعبادة والأخلاق والسلوك أمراً أو نهياً.. وهذا هو دين الإسلام الذي أمر الله تعالى بالدخول فيه، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ).
وحذر الله تعالى أقواماً يعملون ببعض الكتاب ويتركون العمل بالبعض الآخر قال الله تعالى: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).
إن بهذه التشريعات صلاح المُجتمع والأفراد وصلاح الحكام والمحكومين، (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ). وإذا علم الناس ذلك، فإنّهم سيحرصون على تطبيق هذه الشريعة والعمل بها حسب الوسع والطاقة إذ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها.. ولو علموا ذلك وما يترتب عليه لاجتهدوا في المُبادرة إلى تلبية نداءات ربهم الذي خلقهم، والمتكفل برزقهم ويملك أنفسهم وبيده محياهم ومماتهم.. ولو علموا بما يترتب على ذلك من الجزاء الحسن لهم في الدنيا والآخرة لاجتهدوا في تحقيق مرضاته.. فإن الله يحفظ من يحفظه.. ومن لم يحرص على العمل بشريعة الله بل أعرض عنها فهو لم يحفظ الله تعالى ولم ينصره، فإن من معنى حفظ العبد لله ونصرته له أن يعمل بشريعته بامتثال أوامره واجتناب نواهيه.