وطني العزيز المُحترم
جاء قريبي خليل فرح إلى أم درمان ليصنع بلسانهم امتداداً جَديداً لفكرة السُّودان.. طواعيةً وبوعي وإخلاص تَمَسّك النوبي (كامل الدسم) بلغة لا ينطق بها ليعبر بذاته المتعية إلى حيث أقرانه وأهله وأحبّته.. ليصنع لهم غناءً بطعم حنطتهم والدريش.. فبزّهم وأمتعهم حتى قادهم ليخرجهم وثورتهم من السرية إلى العلن.. ليقضوا معاً مضاجع المُحتل الطفيلي الدخيل، ولتسجل الذاكرة قريبي الآخر محمد سر الختم (الصائغ) كأول سجين سياسي.
ما أحلى التّفسُّح ما بين علائل أب روف للمزالق من فتيح للخور للمزالق..
حينما يصير الوطن فكرة تستحق التداوُل في دفاتر البذل والعطاء وليس مطرقة وشلية.. وأضغاث عصبيات نتنة ومقيتة.
كان ود التني يعيش بيننا وهو يرسل وصيته التي مثلت أشواقنا لو عرفنا:
(نحن للقومية النبيلة
ما بندور عصبية القبيلة
تربي فينا ضغائن وبيلة
تزيد مصائب الوطن العزيز)
خدعوك فقالوا إنّ القبيلة أسهمت على نحوٍ إيجابي في وحدة وتماسُك السودان…
ومتى فعلت…؟
يضج الخاطر بآلاف الحكاوى المُروّعة لخلافات قبلية طاحنة راح ضحيتها نفرٌ من أزاهير بلادي كنا نعدهم للأفضل لا أن يموتوا هكذا كالنعاج..!
ودونكم حادثتي القضارف وبورتسودان وذلكم الاحتشاد والاستقطاب الحاد المقيت الذي حفلت به الأسافير، وكنا نظن أننا عبرنا بعيداً من ذلك (الهدام).. فإذا بالدم المُسترخص والعداوة المناطقية..!
وكأن كل هذا التطور الإنساني الذي انتهى عليه الكون لا يعنينا.. وكأنما نعيد أقاصيص القرون الوسطى..!
هَزّني إلى حَدّ الذهول أحداث (القتل والتغريب) التي حصلت في دنقلا.. قتل واحد من الناس في صف بنزين فاحتقنت الأرض وارتفعت صيحات الثأر حتى تنادى (العقلاء)!! و(الحكماء)!! فالتأموا برعاية كريمة من والي الشمالية وقرّروا درءاً للفتنة وحتى تهدأ النفوس أن يتم ترحيل المجموعة التي ينتمي إليها القاتل إلى وادي حلفا!! ورضي الجميع!! وبدأت رحلة العذاب الذي لم تَنتَهِ حتى الآن.. لم يُرحّب بهم أبداً.. لفظتهم دنقلا وكل المدن والقُرى التي وطأوها في رحلتهم نحو الدوس على ضمائرنا الميتة.. وطالتهم اللعنات والسباب.. مُعلقين ما بين حلفا ودنقلا.. أسر وعائلات.. نساء ورجال.. شباب وعجزة.. سامهم العراء والمسغبة والتّشرُّد في عقاب جماعي لجريمةٍ فرديةٍ، والعجيب أنّنا تَفَرّجنَا على ذلك الوضع المأساوي الغريب، وكأنّنا نُؤسِّس لابتعاث منطق الغاب بتأكيد عجزنا عن السماح لدولة القانون لتقول كلمتها وتفرض سيادتها.
سكتنا ونحن نرى أطفالاً لا ذنب لهم يخوضون غمار جهلنا وقساوة منطقنا الغابي البليد، يُرَحّلون من ديارهم وهم يلبسون عار الذلة والمسكنة.. أو لأنهم أصلاً كانوا مُستضعفين في دنقلا فاخترنا أن نطردهم دونما اعتذارٍ ولا وكزة للضمير!؟..
إذا قتل فيهم الشريف أقاموا النفير والديات، وان قتل الضعيف أحالوه إلى المقاصل وأهله إلى المنافي والتغريب..!
قبل أن تسرعوا وتشرعوا في إعادة المفصولين تعسفياً، أوقفوا هذه الجريمة المُستمرة، والتي إن تطاول زمانها، فإنّنا سنكون أمَام سَابقةٍ خَطيرةٍ لا تلبث أن تصير طريقةً للحل ودرباً للمعالجة، وما أكثر القرود في وطني.
وطني الصبر لا من يغيظ..!