لا يخفى أنه يكثر تناول موضوع (الفساد) و(المفسدين) في القنوات والمنابر والمنتديات والمجالس، ولدى الجهات الرسمية وغير الرسمية، وأما على صفحات الصحف فإن لهذا المصطلح الحضور الكبير حتى أصبح بعض كتاب الأعمدة ببعض الصحف يمكن أن يطلق عليهم أنهم من (المتخصصين) في الحديث عن (الفساد) و(المفسدين)، وإن المتابع لتداول هذا المصطلح يجد أنه أي مصطلح (الفساد) بات يحصر ويختزل في الفساد الذي يكون مصدره الدولة أو الحكومة أو بعض المسؤولين أو بعض الجهات في الدولة ، وقد يخصصون من ذلك : الفساد المالي أو الإداري الصادر من أشخاص مسؤولين في الدولة أو جهات حكومية بعينها ، وهكذا نجد أن مصطلح (الفساد) و (المفسدين) أصبح له تفسير معين في لغة كثير من الناس لا يتجاوزونه ، فهو بالتالي كما يقول علماء أصول الفقه (عام قد خُصَّ) .
وخلال مسيرة هذا العمود (الحق الواضح) لأكثر من اثني عشر عاماً؛ فإني قد نشرتُ عدداً من المقالات وأعدت نشر بعضها لأهميتها، في التحذير من الفساد المالي والإداري.. أذكر منها: (حرب الفساد والمفسدين من آكد حقوق المحكومين/ مهمات في علاج ومحاربة الفساد / رسالة إلى المفسدين ومضيعي الأمانات / سلسلة من أربع حلقات بعنوان جريمة أكل المال الحرام صور ونماذج من الواقع / سلسلة من أربع حلقات بعنوان أداء الأمانة بين الواقع والمأمول، مهمات في محاربة الفساد، ضرب الفساد بيد من حديد، رسالة إلى فاسد، النصح الثمين إلى القط الثمين … وغير ذلك) وهي مقالات متاح الاطلاع عليها في عدد من المواقع الإلكترونية.
وقد قصدت بهذا المقال أن أبين أن مصطلح (الفساد) و(المفسدين) في القرآن الكريم وسنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وفي الواقع ليس هو كما آل عليه الحال من معيب الاختزال!!
فقد تمت الجناية على مصطلح (الفساد) واختزل معناه فيما ذكرت، بينما نجد أن هذا المصطلح يشمل أنواعاً كثيرة من أنواع الفساد وصوره، غاب ذكرها عند كثير من الناس وأخص منهم الكثير من الكُتَّاب في الأعمدة!! بل يزداد العجب عندما تجد من بين من يحارب (الفساد المالي) ويتصدى له في كثير من أقواله ومقالاته، في نفس الوقت فهو يكتب بقلمه ويترجم بأفعاله!! داعياً لترويج أنواع أخرى من الفساد (العقدي أو الأخلاقي أو الاجتماعي أو الأمني)!!!
إذا أمسكنا بالمصحف الشريف وقرأنا في آيات الله تعالى التي جاء فيها ذكر (الفساد) و(المفسدين) فإننا نقرأ ما يلي :
نقرأ قول الله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) سورة البقرة .. والفساد المذكور وإن كان العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب لكن الوارد في نزول الآيات هنا هو (الفساد الأمني) بالاعتداء من إهلاك الناس والبهائم وخيرات الأرض .. ولك أن تتعجب ممن نصّب نفسه متحدثاً رسمياً عن (الفساد) و(المفسدين) ببعض الصحف .. وهو يدافع عن متمردين تلطخت أيديهم بدماء معصومة وأنفس بريئة، وهلك بسببهم ولا زال كثير من الحرث والنسل.
ونقرأ قول الله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) الروم.
والفساد المذكور في الآية الكريمة عام، فالقرآن الكريم حذّر من الفساد بكل أنواعه وصوره، والإسلام دين شامل ولا يجوز قصر المصطلحات على جزئيات، ومن يفعل ذلك فقد أساء لنفسه وفهمه وعلمه و(إصلاحه) الذي يدعيه، قال الله تعالى: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) سورة البقرة، وقول الله تعالى (ظهر الفساد في البر والبحر..) ورد في الآية السابقة بعد قول الله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) .. وفي هذا تفسير أن من صور الفساد بل أخطرها وأكثرها جرماً (الفساد العقدي).. من إعطاء بعض المخلوقين حق الله تعالى الذي خلق لأجله السماوات والأرض وما بينهما والإنس والجن.. فالذي خلق ورزق ويميت ثم يحيي هو الذي يجب أن يُعبَد، وصرف العبادة لغيره هو الشرك بالله وهو من (الفساد) الذي يجب محاربته والتحذير منه، ولك أن تعجب أن كثيراً من (المتخصصين) في الحديث عن (الفساد والمفسدين) قد غاب عن مقالاتهم و(قواميسهم) أخطر صور الفساد في الأرض!!
ونقرأ في القرآن الكريم: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14).. والجحد هنا لكلمة (لا إله إلا الله) .. و(المفسدون) هم فرعون وملأه، فهل للملاحدة والمستكبرين عن عبودية الله تعالى والمحاربين للتمسك بالدين والرجوع إليه نصيبٌ في النصح والدعوة لدى بعض (المتخصصين) في حرب الفساد؟!
ونقرأ قول الله تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) سورة القصص، وهذا في شأن (قارون) وفساده كان معلوماً وهو نكران نعمة الله عليه فهذه صورة من صور الفساد الذي هو سوء أدب مع الخالق وإنكار نعمته ونسبة النعمة للجهد الشخصي، وما أكثر انتشار مثل هذا الوصف من الفساد!!!
ونقرأ قول الله تعالى: (فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) يونس، فالسحر فساد والسحرة مفسدون، يشركون بالله تعالى ويعبدون الشياطين ويفرقون بين المرء وزوجه والأخ وأخيه ويتسببون في أضرار بالمجتمع، فهل وجد السحرة والدجاجلة حظهم من التحذير في كتابات بعض (المتخصصين) في الحديث عن الفساد في سائر المنابر والوسائط والقنوات والصحف؟!
ونقرأ قول الله تعالى: (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) سورة العنكبوت، فاللواط من الفساد في الأرض والزنا من الفساد في الأرض، وقد حذر القرآن الكريم منهما وحذر من أسبابهما، ومن العجائب أن البعض يكثر الحديث عن الفساد الذي خصّه بنوع معين هو (المالي) ومن جهات محددة، وفي نفس الوقت يشجع أسباب انتشار الفواحش، فمن يخبر أولئك الكتاب ليفتحوا كتاب الله تعالى ويتأملوا صور الفساد التي بسببها نزلت علينا المصائب والمحن وافتقدنا بركة الوقت والعمر والمال وعمّ الغلاء وأحاطت بنا المهددات كإحاطة السوار بالمعصم ؟!
هذه مجرد إشارة و(إلماحة موجزة) وأتمنى أن يعي كل من يتحدث عن (الفساد) من كتاب الصحف والخطباء والمتحدثون والمحاضرون وغيرهم المعنى الصحيح لمصطلح: (الفساد) وما يتضمنه وصوره حتى يعطوا كل صورة منه حقها، وإن أعظمه هو الفساد العقدي!! والحكمة ضالة (المؤمن)..