ما هو سر الصناديق الخشبية الأربعة المزودة بأنابيب الأكسجين.. وكيف هربت عبر مطار الخرطوم؟
لماذا أقلعت طائرة (الهيركولاس) الأمريكية من مطار الخرطوم، دون إذن برج المراقبة.
تحت ستار الظلام .. بدأ كل شيء غير عادي… حركة السيارات التي تقف ثم تنصرف أمام الفيلا الأنيقة بالخرطوم كانت لافتة للنظر.. كانت تنطلق مسرعة تحت ستار الظلام ثم تعود مرة أخرى يوماً بعد يوم.. دون أن يظهر من بداخلها .. بدت الحركة بفيلا العمارات الواقعة بشارع 25 غير عادية ومرتبكة للغاية.. طالت حالة الارتباك تلك قاطني المنزل ما اضطرهم لصرف العاملين في البيت من السودانيين، ومنعوا من الصعود إلى الطابق العلوي من المنزل لأغراض يتطلبها العمل خشية اكتشاف شيء ما خبئ هناك.. الحركة بغرف الطابق العلوي كادت تكون معدومة.. لم يكن هناك ما يثير الريبة أو الشك ظاهرياً على الاقل.. حين دخولك ردهة الفيلا الانيقة.. لم يكن أحد يتحدث إلى الآخر حول الأمر إلا همساً.. تصرفات قاطني المنزل بدت هي الأخرى غامضة بما يكفي لأن تجعل من بالمنزل يضعون علامات استفهام كبيرة دون أن يجرؤ أحدهم على الكلام أو حتى الهمس حول ما يحدث، وبدت الأمور تجري على غير العادة… وبدا الأمر سرياً للغاية.. علم من بالمنزل أن الأمور بالطابق العلوي ليست على طبيعتها…
فيلا العمارات
من كان يقطن المنزل، وما هويته.. ربما علم الجيران ومجالس المدينة من هو قاطن المنزل…انه الديبلوماسي المعروف الذي عمل بوكالة مخابرات بلاده من داخل سفارتها، السيد ميلتون بيردن مندوب السي أي إيه ورئيس محطتها بالخرطوم منتصف ثمانينات القرن الماضي.. بدا بيردن منزعجاً للغاية في ذلك اليوم.. عملاء الموساد الأربعة بمحطة الخرطوم في مأزق كبير عقب الكشف عن هوياتهم والإدلاء بمعلومات حولهم في اعترافات بمحكمة الفلاشا.. وسبب انزعاج مليتون الكبير هو التوصية التي طلبت منه مسبقاً بخصوص عملاء الموساد بالخرطوم ، أوصاه رؤساؤه بوكالة المخابرات المركزية الأمريكية الـ (CIA) بمساعدتهم متى ما طلبوا ذلك… كان الضباط الأربعة بالموساد الإسرائيلي قد تعرفوا مسبقاً على مستر بيردن خلال لقاء سري جمعهم بالخرطوم.. وفي ذلك اليوم وتحديدًا في العام 1984م أي قبل الإطاحة بالنميري بعام، عقد عملاء الموساد اجتماعًا سريًا في أحد فنادق الخرطوم مع رئيس المحطة الأمريكية السيد بيردن ليتعرف بعضهم على بعض على خلفية أوامر من وكالة المخابرات المركزية لمساعدتهم حال وقوعهم في مأزق ما تحت أي ظرف.. كان تواجدهم في الخرطوم في تلك الفترة بغرض متابعة ملف ترحيل الفلاشا إلى اسرائيل، إلا أن الثورة التي عجلت برحيل النميري كشفت عنهم الغطاء الأمني وحدث ما كان في الحسبان..
العملاء في مأزق
ملاحقات الشرطة السودانية كانت كفيلة بإثارة قلق مندوب السي أي إيه في الخرطوم، يقول ميلتون بيردن.. كان عملاء الموساد الأربعة يفرون في شوارع الخرطوم المزدحمة، متقدمين خطوة على الشرطة السرية السودانية ومحققون من دولة جارة. تعرض الجواسيس الإسرائيليون للكشف عن هوياتهم من قِبل مخبرين سودانيين تم اعتقالهم في ملف الفلاشا في العام 1986م… تم ذلك عقب كشف الغطاء الاستخباري الذي كان يحميهم كرجال أعمال أوربيين يعملون تحت واجهة مكتب أعمال خاص… إلا أنهم كانوا في الواقع عملاء للموساد الإسرائيلي يديرون محطته من الخرطوم… ولا يعلم على وجه الدقة من هم ضباط الموساد الذين عملوا بمحطته في الخرطوم، إلا أنه يرجح أن من بينهم جاد شمرون الضابط أو الشخصية التي كانت ناشطة في ملف الفلاشا.. اعترف شمرون لاحقاً إنه حط في الخرطوم برفقة فريق صغير من ضباط الموساد في العام 1881م تحت غطاء شركة سويسرية.. حسب تصريحات أدلى بها لصحف إسرائيلية. وبدت الشرطة مطاردتهم وتعقبهم، تمكن العملاء خلال تلك المطاردة من إنقاذ أجهزة الاتصالات السرية الخاصة بهم فقط وتركوا كل شيء وراءهم قبل الوصول إلى مخبأهم في منزل السيد ميلتون…
كانت الوجهة الوحيدة أمام الجواسيس منزل ميلتون بيردن بالعمارات .. تلقى بيردن إشارة إلى أنهم في الطريق اليه… طرق اثنان من عملاء الموساد الباب الأمامي لمنزله، وقاموا بتفريغ معدات الاتصالات الخاصة بهم وانتقلوا إلى غرفة في الطابق العلوي. وسرعان ما انضم إليهم عميل موساد ثالث من مركزهم. بعد بضعة أيام ، كان هناك عميل رابع – أرسلته إسرائيل سراً في مهمة إنقاذ الآخرين.
لم يجد بيردن مفراً من تقديم يد المساعدة لهم وإيوائهم في منزله بالخرطوم.. على مدار الثلاثين يومًا التالية ،عمل بيردن على إخفاء العملاء الأربعة من أعين السلطات السودانية ، ونقلهم من منزل تابع لوكالة الاستخبارات المركزية إلى منزل آخر آمن لمنع أسرهم المحتمل وإعدامهم. هكذا تقول تفاصيل سرية للغاية نشرت جزءاً منها مجلة لوس انجلس تايمز، على لسان بيردن نفسه.
يقول بيردن عقب الإطاحة بالنميري “كان كل من عرفتهم في المخابرات السودانية في السجن، تفاقم الوضع عندما تلقت السلطات السودانية الجديدة معلومات تكشف عن وجود وموقع محطة المخابرات الإسرائيلية السرية في الخرطوم”. وحسب افادات بيردن فإن الموقف تأزم مع إغلاق المطار وعدم السماح بالخروج من البلاد ، ويقول” كان لدى عملاء الموساد بدائل قليلة ، لم يكن لإسرائيل علاقات دبلوماسية مع السودان ، لذلك ليس لديها سفارة لتوفير ملاذ آمن لهم”.
على المستوى الشخصي ، قال بيردن ، الذي تقاعد من وكالة الاستخبارات المركزية في عام 1994 ،إنه وزملاءه أحسوا بشعور من “الإخوة” مع زملائهم في الموساد. “عندما كانت القضية هي الحياة أو الموت ، اختفى أي تلميح من التنافس بين منسوبي الجهازين “. كان من الواضح أن إنقاذ وكالة المخابرات المركزية الأمريكية لعملاء الموساد في الخرطوم تعبر عن شراكة سرية عالية المستوى.
قبعات الكاوبويز
حاول بيردن (أمركة) الإسرائيليين الأربعة، أعطاهم قبعات دالاس كاوبويز في محاولة لإقناع العاملين بالمنزل أنهم مسؤولون أمريكيون في الخدمة المؤقتة. ومع ذلك ، بقي عملاء الموساد في غرفهم ليلاً ونهاراً ، إلا عند التحرك إلى مكان آخر وفي الاثناء تم تزويدهم بأسلحة للدفاع عن أنفسهم تحسباً لأي طارئ. لم يتمكنوا من استخدام معداتهم للاتصال بإسرائيل خوفًا من رصد أي إشارات لاسلكية تكشف أمرهم. وهنا قال بيردن: “كنا نقدم لهم بعض المجلات لقراءتها، وفرنا لهم أشرطة وجهاز فيديو وزودناهم ببعض الأسلحة، كانت السلطات السودانية تشك في أمرنا نحن الأمريكيين، لم يبق أمامنا مخرج.. كان البحث عنهم يجري في جميع أنحاء المدينة، يبدو أن الأمر كان مجرد مسألة وقت قبل أن يتم القبض عليهم”.
الصناديق الخشبية
لم يسدل الستار على ذلك النحو.. باختبائهم في منزل آمن ، مع مرور الأيام بدت دائرة الخناق تضيق وفرص طوق النجاة تقل أمام العملاء الأربعة ، لم يجد بيردن بداً من إبلاغ وكالة المخابرات المركزية والموساد أنه يخطط لإخراجهم على نحو ما عبر مطار الخرطوم. وقال “كنت أعرف بعض الشخصيات في الموساد على مستوى عالٍ جدًا ، وقد وثقوا بي في هذا الأمر”. “لكنني لا أعتقد أنهم كانوا سيوافقون على هذا دون معرفتي شخصياً”.. وكان من بين تلك الشخصيات افرايمهيلفي المدير الأسبق للموساد الاسرائيلي نفسه حسب صحيفة يديعوت أحرنوت.
كانت خطة التهريب غريبة بعض الشيء وفيها من المجازفة ما يكفي لأن يجعل العملاء الأربعة يعيشون حالة من الرعب طيلة الأيام التي تلت عرض الخطة عليهم.. وسرعان ما شرع فنيو وكالة المخابرات المركزية في بناء صناديق خاصة، واحد لكل عميل من الموساد. كانت الصناديق مزودة بفتحات وأنابيب بلاستيكية للتنفس، وكذلك خزانات الأكسجين في حالة سد الثقوب. رتبت وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) لطائرة شحن إلى الخرطوم عقب إعلان إعادة فتح المطار بحيث تكون وجهتها الأخرى إلى كينيا.. حملت سيارة من السفارة الأمريكية عملاء الموساد المكلفين مباشرة من منزل بيردن إلى المطار. ركب ضابط وكالة المخابرات المركزية في المقعد الأمامي. كان هناك اثنان آخران في الخلف مع الصناديق. استطاع سائق السفارة أن يفلت من مطبات رجال أمن المطار تحت غطاء العربة ذات اللوحات الديبلوماسية.
الهدف داخل السيارة
سارت الأمور كما خطط لها.. وصلت السيارة التي تنقل الهدف إلى المطار بأمان.. إلا أن الأمور لاحقاً لم تسر مثلما خطط لها.. تلقى بيردن معلومات مفادها أن الأمن السوداني اكتشفوا أنه كان يخفي الجواسيس الإسرائيليين، وأنه يحاول نقلهم إلى كينيا بطريقة أو بأخرى. في نفس الوقت تقريباً ، أفاد ضباط وكالة الاستخبارات المركزية في المطار أن طائرة هليكوبتر سودانية قد بدأت في التحليق بالقرب من مكانهم.
اتصل بيردن على الفور بالهاتف الآمن من داخل السفارة ، وأمر كابتن الطائرة التي تحمل العملاء بالإقلاع وإخراج عملاء الموساد حالما كانت الصناديق على متنها، استدارت الطائرة وتحركت على المدرج ، رغم النداءات الغاضبة من برج الخرطوم. أقلعت الطائرة دون مشاكل بعدما أفلتت من نداءات برج المراقبة.. بحلول الوقت الذي هبطت فيه في نيروبي ، كان رجال الموساد خارج صناديقهم، مع هويات جديدة لتغطية سفرهم إلى إسرائيل..
إسدال الستار
انتهت المهمة الصعبة بعد مضي نحو ثلاثين يوما كانت مليئة بالمفاجآت بالنسبة لمليتون وزوجته ماري.. وحسب اعترافات له نشرتها صحيفة لوس انجلس ،تلقى بيردن بعدها تحذيرًا بأنه ربما يكون هدفاً لمحاولة اغتيال، لم يمكث بعدها طويلاً في الخرطوم ،غادر بسرعة لمهمة جديدة . أصبح فيما بعد قائدًا ميدانيًا للحرب السرية لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية في أفغانستان ، وقبل أن ينهي عمله عين قائداً للفرقة السوفيتية بوكالة الاستخبارات المركزية. هكذا أسدل الستار على ذلك النحو لمهمة جاسوسية استطاعت أن تشغل الرأي العام السوداني عقب الكشف عن بعض تفاصيلها ، بينما يبدو أن تفاصيل أخرى تخص الملف ما زالت في طي الكتمان..