ثم خلف من بعدهم خلف ..
إن صحّ الخطاب الرسمي المكتوب الذي نُسب إلى وزيرة التعليم العالي إلى مديري الجامعات، وتطلُب فيه ترشيحات لخلفهم الذي سيخلفهم في مواقعهم، وتشترط في من يُرشَّحون (الإيمان بإعلان قوى الحرية والتغيير)، فإن الوزيرة هذه تكون قد ارتكبت جُرماً في حق الوطن وجريرة لا تُغتَفر في حقّ التعليم وقِيَمه التي قام عليها، ووضعت نفسها في مأزق حقيقي بأن يسعى مسؤول، وهو أكاديمي يحمل درجة علمية رفيعة إلى تسييس الجامعات والتعليم العالي والاشتراط على الأكاديميين أن يكونوا مُنتمِين سياسياً حتى يتبوأوا المواقع الأكاديمية والعلمية في إدارة الجامعات، والفعل الذي ترتكبه السيدة الوزيرة هو خيانة لأخلاق وقِيَم التعليم العالي التي ظلت مُبرّأة من لوثة السياسة وأدرانها، ولا تمُتُّ هذه الممارسة إلى العقل السليم بِصِلة، ولم تكن معهودة حتى في عهد النظام السابق الذي جاءت هي وصرّحت وأغلظت إيمانها الغموس بأنها ستسعى إلى إبعاد مديري الجامعات وعمداء الكليات على مظنة أنهم من مؤيدي النظام السابق الذي لم يكًن يشترط الولاء له للتعيين في أي موقع إداري في الجامعات أو تولّي عمادة كلية.
وكُنّا نتمنّى أن يصدر نفي وتكذيب رسمي ينفي عن الوزيرة وزر هذا الخطاب، لكنها لم تفعل، بل أكّد سلوكها السابق وخطابها في الجامعة الإسلامية عندما تسلّلت إليها دون علم إدارتها وقالت الذي قالت دون أن تراعي الضمير المهني الأكاديمي الذي كان يجب أن تتخلّق به، فالجامعات في كل الدنيا بطبيعة الأشياء ونُظُم المجال الأكاديمي تعيش تحت فضاءٍ صارِم من الضوابط والقيم الأخلاقية التي تجعلها بعيدة عن التصنيف السياسي، لأن العلم وقواعده وضوابطه يمثل أرقى أنواع الحياد والقناعات والممارسات الرشيدة للإنسان كإنسان، فالسياسة لها جدالاتها وأساليبها المُلتوية وأخلاقها الوضيعة وقذارتها، لكن العلم ومؤسساته الأكاديمية هي مكان صناعة العقل والإنسان السوي والحقيقة المجرّدة التي لا تقبل التأويل أو التصنيف أو التطفيف، فأي مؤسسة علمية وخاصة الجامعات يقوم عليها أكفاء بحكم تأهيلهم وتحصيلهم المعرفي وأخلاقهم المهنية التي تُبعدهم عن الإفساد أو التلاعب أو الغش أو الكذب أو المحاباة أو التحيُّز، إذ يقوم العلم على ما ينطوي عليه من سموٍّ وقيمة ترتفع بالإنسان ولا تحُطّ من قدْرِه .
فكيف بالله تجعل الوزيرة من يقومون على إدارة الجامعات، مجرد تبع للساسة والسياسيين من الأحزاب المؤتَلِفة في تركيبة الحكم الحالية..؟ هل بالله نَرهَن عقولنا وأدمغتنا العلمية التي نُفاخر بها ليكونوا مُجرّد إمّعات وأتباع لقوى الحرية والتغيير، يُساقُون كما القطيع وراء مَن هم سنة أولى سياسة..؟!
ظللنا نُحذّر من هذا الغلو والتطرّف والتشدّد لدى التيار الذي وجد نفسه في غفلة من الزمن يتبوّأ موقع القرار، وهو تيار لا هَمّ له سوى هدم القيم التي قام عليها المجتمع أُسّست عليها الدولة التي ظلّت مُحافِظة على لوائحها وأحكامها وقواعد مُعاملاتها والتزامها بالقانون إلا في فترات من الجنوح، فهؤلاء يُريدون تطبيق منهجهم الهدمي التخريبي التضليلي دون وعي أو تدبُّر أو عاصم من وطنية أو دين أو أخلاق ، فما يجري اليوم هو تدمير لمؤسسات التعليم العالي، وهي مؤسسات لا علاقة لها بالسياسة ولا بالأنظمة الحاكِمة أياً كانت، فعملية تسييس الجامعات، وهي بدعة جديدة تَبتَدِعها الوزيرة ومَن وراءها باسم الحرية والتغيير لتكون خطوة جبّارة بامتياز في طريق الاستبداد والعسف والقهر، فرض الولاء السياسي على أساتذة الجامعات وهُم العقول العلمية التي علّمت وخرّجت النخب المتعلمة والطبقة السياسية الحاكمة الآن التي لا تُفرّق ما بين الجامعة كمؤسسة عِلمية مُستقلّة وكافتريات النشاط السياسي للطلبة.
ما يجري حقّاً هو تزيُّد سياسي لا قيمة له، من سياسيي المرحلة الراهنة، ويُمكن أن يتكرّر في كل مجال، سيكون وبالاً على البلاد كلها حتى ترتكب كل هذه الجرائر وخيمة العواقب تحت ذرائع لا علاقة لها بالقانون ولا أصل لها في النظم الإدارية، فالسياسة دائماً دابة عمياء تخبط خبط عشواء، ومن هم في أدوارهم السياسية الابتدائية أكثر عمياً من الدابة نفسها معصوبي الأعين ينساقون إلى الهاوية ويدخلون بأرجلهم الحافية وَوِفاضِهم الخالي إلى دائرة الجمر…!