الإمام مالك صاحب (إنتاج) لا (إزعاج) ..(3)
وقد تتلمذ على الإمام مالك خلق كثير جداً ومن أقطار متباعدة وروى عنه الموطأ كثيرون. وقد كان من ضمن من روى عنه بعض (شيوخه) مثل: الزهري وربيعة وأيوب السخستاني ويحيى بن سعيد الأنصاري وهشام بن عروة بن الزبير وعمه أبو سهيل وغيرهم، وأيضاً روى عنه كثير من (أقرانه) مثل: معمر وابن جريج وأبو حنيفة والأوزاعي وشعبة والثوري والليث بن سعد وحماد بن زيد وسفيان بن عيينة وعبد الله بن المبارك وعبد الرحمن بن مهدي ووكيع والوليد بن مسلم وغيرهم.
وقد صنَّف الخطيب البغدادي مؤلفاً خاصاً بالرواة عن مالك ، فعدّ منهم (993 رجلاً)، أما القاضي عياض فقد عدَّ منهم (1300 رجلاً)، وذكر المشهورين منهم وترجم لهم ورتبهم على البلدان وبيَّن طبقاتهم، وذلك في «ترتيب المدارك».
ومن أبرز تلاميذ الإمام مالك ـ رحمه الله ــ الإمام الفذ الشافعي : أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد الهاشمي المطلبي ويجتمع مع النبي عليه الصلاة والسلام في عبد مناف بن قصي وقد ولد سنة 150 هـ وهي السنة التي مات فيها أبو حنيفةـ رحمهما الله تعالى.
قال الشافعي: «أتيت مالكاً وقد حفظت «الموطأ» فقال لي: اطلب من يقرأ لك، فقلت: لا عليك أن تسمع قراءتي، فإن خفَّت عليك، وإلا طلبت من يقرأ لي ، فقال لي: اقرأ، فقرأت فأعجبه ذلك، وقال: اقرأ، فقرأت عليه «الموطأ» من أوله إلى آخره» .
ويذكر الذهبي أن عمر الإمام الشافعي إذ ذاك ثلاث عشرة سنة !!
ومما قاله الشافعي في شيخه مالك: «إذا جاءك الأثر من مالك فشد به يدك» .
وقال: «إذا ذكر العلماء فمالك النجم، ولم يبلغ أحد في العلم مبلغ مالك لحفظه وإتقانه وصيانته ومن أراد الحديث الصحيح فعليه بمالك» .
وكان يقول: «مالك بن أنس معلمي ـ وفي رواية أستاذي ـ وما أحد أمنّ علي من مالك، وعنه أخذنا العلم وإنما أنا غلام من غلمان مالك» .
وقال رحمه الله: “ما في الأرض كتابٌ في العلم أكثر صواباً من «موطأ مالك»” .
وبيَّن الشافعي قصته في قدومه على الإمام مالك فقال: «لما رجعت إلى مكة جعلت أنشد الأشعار وأذكر الآداب والأخبار وأيام العرب ، فمرَّ بي رجل من الزبيريين ، فقال لي: يا أبا عبد الله عزَّ عليَّ ألا يكون مع هذه الفصاحة والذكاء فقه، فتكون قد سُدْت أهل زمانك، فقلت: ومن بقي يقصد؟ فقال لي: هذا مالك سيد المسلمين يومئذٍ. فوقع في قلبي وعدت إلى «الموطأ» فاستعرته وحفظته في تسع ليالٍ» !!
قلت: وبهذه الهمة العظيمة كان لسلفنا الصالح هذا التفوق والتميز والإنجاز العظيم بعد توفيق الله، وهنيئاً لهذا الموفّق الناصح الذي دلَّ الإمام الشافعي إلى هذا الخير العميم.
وقد أثنى العلماء على الإمام الشافعي كثيراً وانتشر مذهبه في الآفاق .
يقول الذهبي في ترجمته: «الإمام عالم العصر ناصر الحديث فقيه الملة» .
وقال: «وصنَّف التصانيف، ودوَّن العلم ، وردَّ على الأئمة متبعاً الأثر، وصنَّف في أصول الفقه وفروعه، وبعُدَ صيته وتكاثر عليه الطلبة» .
وقد ذكر كثير من العلماء أن الشافعي هو مجدد المائة الثانية، وأما مجدد المائة الأولى فهو عمر بن عبد العزيز رحمه الله.
وقال الإمام أحمد: «ما أحد يحمل محبرة من أصحاب الحديث إلا وللشافعي عليه سُنَّة» .
وقال: «كان الشافعي للعلم كالشمس للدنيا والعافية للناس، فانظر هل من هذا عِوض؟» .
وهو أول من صنَّف في أصول الفقه وهو كتابه المسمى: «الرسالة» ومن مؤلفاته كتاب «الأم» و«جماع العلم».
وكان بعض أهل العلم يقول: «كفى الشافعي شرفاً أن مالكاً شيخه، وكفى مالكٌ شرفاً أن الشافعي تلميذه» وقد نُسِب هذا القول لابن الأثير رحمه الله. وتوفي رحمه الله سنة 204 هـ .
ومن تلاميذ الإمام مالك الذين تخرجوا على يديه الإمام عبد الله بن وهب وهو أبو محمد عبد الله بن وهب بن مسلم الفهري المصري الإمام الحافظ، ولد سنة 125هـ وقيل 124 هـ وهي السنة التي مات فيها ابن شهاب ـ رحمه الله.
وقد طلب العلم وعمره سبع عشرة سنة وأخذ عن جمٍّ غفير من أهل العلم، قال بعضهم: إنهم أربعمائة.
وقال عنه الذهبي : «لقي بعضَ صغار التابعين، وكان من أوعية العلم وكنوز العمل».
وقد تتلمذ على يد الإمام مالك ولازمه، وقال في ذلك: «صحبت مالكاً عشرين سنة» !!
قلت: وفي هذا وأمثاله عبرة لكل من رأى أن السنة أو السنتين تكفيه في طلب العلم!! أو قراءة باب أو بابين تؤهله لأن يلتحق بالإفتاء على الهواء مباشرة، وإلى الله المشتكى، ولعلَّ تعجل وتصدر الكثيرين قبل أوانهم من أسباب حرمانهم من أن ينفعوا أنفسهم أو أن تنتفع الأمة بهم، والقاعدة الفقهية المشهورة بين أهل العلم أن “من تعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه” .
ولم يكن الإمام مالك يتكلم بشيء إلا وكتبه ابن وهب. ولم يكن الإمام مالك يكتب لأحد بالفقيه سوى ابن وهب.
وكان يكتب إليه: إلى عبد الله بن وهب فقيه مصر وإلى أبي محمد المفتي، ولم يفعل هذا لغيره وقال: «ابن وهب عالم وإمام»، وكان يُسمى ديوان العلم .
وقد روى عنه بعض شيوخه. وهذا من أدب السلف الصالح أنهم يأخذون حتى من تلاميذهم.
وقال عنه الإمام أحمد: «ابن وهب عالم صالح فقيه كثير العلم، صحيح الحديث، ثقة صدوق، يفصِّل السماع من العرض، والحديث من الحدي ، ما أصح حديثه!» .
ومما يدل على صلاحه وتقواه، أنه قال: «نذرت أني كلما اغتبت إنساناً أن أصوم يوماً، فأجهدني، فكنت أغتاب وأصوم، فنويت أني كلما اغتبت إنساناً أن أتصدق بدرهم ، فمن حب الدراهم تركت الغيبة»، وقد علَّق الذهبي على هذا الأثر فقال: «قلت: هكذا والله كان العلماء، وهذا هو ثمرة العلم النافع» .
إنهم علماء ربانيون عاملون بما تعلموه، ولذلك جعل الله في أقوالهم ودروسهم وأفعالهم ومؤلفاتهم نفعاً عظيماً.
وألف التصانيف العديدة ذات المنفعة العظيمة، ومات بمصر سنة 197هـ .
وسبب موته أنه قُرئ عليه كتاب «الأهوال» من جامعه ، فأخذه شيء كالغشي، فحُمل إلى داره، فلم يزل كذلك إلى أن قضى نحبه، أسأل الله أن يرحمه وأن يدخله في قوله: (ولمن خاف مقام ربه جنتان).
وتلاميذ الإمام مالك كثيرون وسيرهم زاخرة باليواقيت والدرر والكنوز العظيمة التي يحتاجها كثير من العلماء والدعاة وطلاب العلم فضلاً عن عامة المسلمين.
وثروة الإمام مالك العلمية كبيرة جداً، وإن المؤسف جداً أن البلوى قد عمت بالجهل والزهد والإعراض عن تراث هذا الإمام وتراث غيره من أهل العلم من السلف الصالح، ورضي كثير من الناس لأنفسهم بأقل القليل، وبالمعلومات العامة التي يعرفها أطفال الابتدائي، وانشغلوا بالأدنى دون الأعلى، وجهلوا سيرة الأسلاف فغاب عنهم وضاع عليهم الفهم الصحيح للإسلام، وضعفت الهمم، وركنت إلى حطام الدنيا الفانية، فإن سيرة السلف الصالح مما يجلى به صدأ القلوب، وتشحذ به الهمم، وتقوى به العزائم ولا يعرف لأهل الفضل فضلهم إلا أهل الفضل..