الإمام مالك صاحب (إنتاج) لا (إزعاج).. (2)
ليس الإمام مالك وحده من يستحق أن يفرد بهذا العنوان، فإن بقية الأئمة الأربعة (أبي حنيفة والشافعي وأحمد) وبقية الأئمة السائرين على دربهم ممن سبقوهم أو جاءوا من بعدهم يستحقون ذلك، وإن الأمة الإسلامية قد احتفت بهم غاية الاحتفاء، وكتبت في سيرهم وتراثهم وعلمهم ومؤلفاتهم المجلدات، وتنافست الأقسام العلمية في الجامعات لكتابة رسائل الماجستير والدكتوراه في الجوانب المختلفة مما يتعلق بهم من علوم ورثتها الأمة منهم، أقاموها على هدي الكتاب والسنة، فإنهم عزٌ للأمة وفخرٌ لها .
واخترت الإمام مالكاً للحديث والذب عنه لأنه إمام المذهب الذي ينتشر في بلادنا، وقد طرق أذني حديث فيه (جهالة) يصف تراث الأئمة الأربعة وما دوّن عنهم من فقه وما وقع فيه الخلاف في المسائل الاجتهادية بأنه (إزعاج)!! وهو من أعجب ما طرق الأذن !! والحكم على الشيء فرع عن تصوّره، فأدوات الحكم (المفقودة) تؤثر على الشهادات (المرتجلة) (المنجورة) !!
والإمام مالك قد تأهل بالعلم وسلك سبيله وطريقه فقد حرص على طلب العلم، كما وقد ظهر حبه له وصبره وجِدَه وجلده في ذلك، وتحريه في أخذ العلم عن أهله، مع ما وهبه الله من سرعة الحفظ وكثرته ، مع فهمه وإتقانه ذلك، كانت هذه الأمور من المؤهلات لأن يكون مالك معلماً وإماماً في المستقبل فحصل له ذلك في حياة بعض شيوخه، فقد بدأ مالك التدريس والتعليم والإفتاء في سن مبكرة ، بعد أن استشار أهل العلم، وكان يرى أن ذلك لابد منه.
فقد قال في ذلك: «ليس كل من أحب أن يجلس في المسجد للحديث والفتيا جلس!! حتى يشاور فيه أهل الصلاح والفضل.. فإن رأوه لذلك أهلاً جلس، وما جلست حتى شهد لي سبعون شيخاً من أهل العلم أني موضع لذلك» .
وقد بلغ في درسه من إجلاله للحديث مبلغاً عظيماً، وقد صاحب تدريسه التزامه السكينة والوقار والبعد عن اللغو، وكذا البعد عن المسائل الافتراضية . ولذلك كان مجلسه من أكثر المجالس هيبة.
قال أبو مصعب: “كانوا يزدحمون على باب مالك، وكنا نكون عند مالك فلا يكلم ذا ذا ولا يلتفت ذا إلى ذا… وكانت السلاطين تهابه وهم قائلون مستمعون”.
وكان إذا جلس جلسة لم يتحول عنها حتى يقوم، وإذا شرع في الحديث تَهَيَّبه تلاميذُه وكأنهم لم يعرفوه ولم يعرفهم وكأن الطير على رؤوسهم.
فكافأه المولى سبحانه وتعالى على إجلاله لحديث رسوله صلى الله عليه وسلم هيبة وإكراماً من أهل العلم والفضل وذي السلطان.
قال سعيد بن أبي مريم: «ما رأيت أحداً أشد هيبة من مالك، لقد كانت هيبته أشد من هيبة السلطان» .
وقال الشافعي: «ما هبت أحداً قط هيبتي مالك بن أنس حين نظرت إليه» .
ومما أنشده بعضهم في ذلك:
يأبى الجواب فلا يراجع هيبة والسائلون نواكس الأذقـــان
أدب الوقار وعز سلطان التقى فهو المهيب وليس ذا سلطان
وأما تحريه للفتوى وورعه في ذلك، فإن الإمام مالكاً يعد إماماً بحق في ذلك، وقد سُطرت في كتب أهل العلم نقولات عظيمة عنه . وقد تقدم أنه تأثر في ذلك بشيخه ابن هرمز. لاسيما في قول: «لا أدري» وفي عدم التجرؤ على الفتيا، وهو منهج السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان.
ومما نقل عنه في ذلك: أنه كان يقول: “ربما وردت عليَّ المسألة فأسهر فيها عامة ليلي” وكان ـ رحمه الله ـ إذا سئل المسألة قال للسائل: انصرف حتى أنظر فيها، وكان إذا سئل عن مسألة تغير لونه وقال بعضهم : لكأنما مالك والله إذا سئل عن مسألة واقف بين الجنة والنار، وكان يقول: «من أحب أن يجيب عن مسألة فليعرض نفسه قبل أن يجيب على الجنة والنار، وكيف يكون خلاصه في الآخرة، ثم يجيب» .
ونظراً لأن المفتي يكون حجة بين السائل وبين الله تعالى، فقد كان الإمام مالك كثيراً ما يقول في بعض المسائل: (لا أدري) ، وكان مع علمه الغزير ومكانته وإمامته لا يتحرج من أن يقولها.
قال الهيثم بن جميل: “سمعت مالكاً سُئل عن ثمان وأربعين مسألة فأجاب في اثنتين وثلاثين منها بـ «لا أدري»” .
وهذا منه ـ كما تقدم ـ عملاً بوصية شيخه ابن هرمز له حيث قال له فيما يرويه الإمام مالك عنه: «ينبغي للعالم أن يورِّثَ جلساءه قول: «لا أدري» حتى يكون ذلك أصلاً يفزعون إليه» .
وكان يقول ـ رحمه الله ـ منكراً على من يتعجلون الفتوى: «ورأيت أهل زماننا هذا يشتهون الكلام في الفتيا، ولو وقفوا على ما يصيرون إليه غداً لقللوا من هذا، وإن عمر بن الخطاب وعلياً وعلقمة وخيار الصحابة، كانت ترد عليهم المسائل، وهم خير القرون ، الذين بعث فيهم النبي عليه الصلاة والسلام وكانوا يجمعون أصحاب النبي، ويسألون حينئذٍ ثم يفتون فيها، وأهل زماننا هذا قد صار فخرهم الفتيا، فبقدر ذلك يفتح عليهم من العلم…» .
قلت: فكيف بالإمام مالك ـ رحمه الله ـ لو رأى أهل زماننا هذا؟!! فقد رأينا ـ للأسف ـ تجرؤ كثير من الناس على الفتيا والكلام في دين الله والتحدث عن الشريعة وأحكامها والحديث عن أهل العلم الذين اتفقت الأمة على إمامتهم وفضلهم وهم ليسوا أهلاً لذلك بل بعضهم هم من أجهل خلق الله بدين الله تعالى ومصادر التشريع والعلماء الراسخين.
وقال ابن وهب وهو إمام أهل مصر في زمانه الفقيه وهو من خريجي مدرسة الإمام مالك وثمرة من ثمار جهده وإنتاجه المميز، ومن أفضل طلابه، قال : “لو شئت أن أملأ ألواحي من قول مالك: «لا أدري» لفعلت”.
فإن الإمام مالكاً ما صدر عنه علم مدقّق وبحث محقق ، لا يمكن أن يوصفه هو وأهل العلم بقية الأئمة الأربعة بأنه (إزعاج)، وهي كلمة (أزعجت) لأنها غاية في البعد عن الجادة والصواب فضلاً عمّا سببته من أذية، ولا يعرف لأهل الفضل فضلهم إلا أهل الفضل.
وأواصل بمشيئة الله تعالى.