مختار دفع الله
شهد يوم الاثنين الماضي رحيل أحد الأنجم الزواهر في فضاءات الغناء السوداني بالعاصمة الأردنية لينضم إلى الراحلين من حبات العقد النضيد والفريد للغناء النظيف والمعافى خليل فرح, كرومة, سرور, الأمين برهان, عبد الحميد يوسف, التاج مصطفى, حسن عطية, أحمد المصطفى, سيد خليفة, أحمد الجابري, الكاشف, وردي, عثمان حسين إلى آخر من رحلوا عن دنيانا بعد أن طرّزوا أثواب أماسيها بخُيُوط إبداعهم الذهبية ونقشوا على جدار تاريخ الأغنية السودانية ما كتب لهم الخلود، بل وما جعل سيرتهم حَيّةً تنبض بجميل الأغنيات.. فلقد حضن الأديم، عاشق الأديم الفنان الشامل صالح الجيلي أبو قرون الشهير بصلاح بن البادية أحد المطربين من حداة التجديد في مسيرة الأغنية السودانية منذ خواتيم خمسينات القرن الماضي، فلقد بدأ الفنان ابن البادية مسيرته الفنية الحاشدة وسط كوكبةٍ من عَمَالقة فن الغناء والذين يصعب على الوافد الجديد إليهم أن يكون مُبرزاً وسطهم إن لم يكن يمتلك المهارات والقدرات والموهبة العالية، عَلاوةً على جمال الصوت ورخامته، لكن فقيدنا استطاع من الوهلة الأولى أن يثبت أقدامه في حلبتهم، بل هو يكاد يكون الفنان الوحيد الذي أجازته الجماهير ولم يُخضع لمعايير اللجان المنوط بها إجازة المطربين الجدد.
لقد استطاع ابن البادية وبما يملك من حصافةٍ وموهبةٍ وبصيرة فنية نافذة، أن ينتقي أجمل القصائد ليضفي عليها ثوباً لحنياً شجياً لتكون إحدى الدرر في مكتبة الغناء السوداني، ودونكم أغنيات خالدات مثل “كلمة, عايز أكون, حسنك أمر, الشوق والوطن, أنت أغلى, حب الأديم” وهذه نماذج لأغنيات باذخات أثرى بها صلاح ساحة الغناء ولقد أعانه ذوقه الرفيع وحصافته وإحساسه العالي في اختيار أجمل النُّصوص لتقديمها لعشاق فنِّه مُتعاوناً في مسيرته الخضراء مع أشهر الشعراء هاشم صديق, الصادق الياس, عبد الله النجيب, محجوب سراج, محمد صالح بركية, محمد علي أبو قطاطي, وآخرين بالإضافة للثنائية المُدهشة التي شكّلها مع الشاعر الفذ المرحوم محمد يوسف موسى والتي كانت ثمرتها هي الأبرز في رحلته الفنية الرائعة.
ولم تكن موهبة صلاح بن البادية وقفاً على الغناء العَاطِفي، بل تعدّته إلى آفاقٍ أخرى وأنماط مُختلفة كأدائه للمدائح التي بَرَعَ فيها بحكم نشأته وانتمائه لأحد البيوت الصوفية الكَبيرة بشرق النيل، كما قدّم عدداً مقدّراً من الأغنيات الوطنية لعلّ من أشهرها أغنية “حُب الأديم” للشاعر الراحل مبارك المغربي وقام بإهداء بعضٍ من ألحانه لعدد من زملائه المُطربين، وهنا تجدر الإشارة إلى أغنيات مثل “طير الرهو” للشاعر الراحل إسماعيل حسن والتي تغنى بها المطرب الكبير حمد الريح، وقصة الشوق يا حيارى، وحب الناس يحبوك، وجيتنا من وين يا هنا للشاعر الصادق الياس، حيث تغنى بها المطرب الراحل الأمين عبد الغفار، وكان ابن البادية – يرحمه الله – شغوفاً بالمسرح، فلقد استهواه منذ صغره التمثيل، فكانت له إسهامات مُقَدّرة في هذا اللون من الفنون، فقدم فيلم “رحلة عيون” مع النجم المصري الكبير محمود المليجي والنجمة سمية الألفي والفنان الراحل الفاضل سعيد، إضافة لمجموعة من الأفلام والمسرحيات لعل من أشهرها “تاجوج” و”ريرة”.
ولقد اتّصف ابن البادية طِوال مشواره الفني بالخُلُق الرفيع وبوفائه الكبير لأصدقائه ومعارفه ومُحبِّيه وما أكثرهم، فلقد كان – يرحمه الله – رجل مُجتمع من طرازٍ فريدٍ لا يتخلّف قط عن المُشاركة في المناسبات الاجتماعية كافة، ولقد كان لقائي الأول به في خواتيم سبعينات القرن الماضي، حيث تغنى لي بأغنية “ساقية جحا” والتي قدمها في مهرجان الثقافة الثالث في مطلع ثمانينات القرن المنصرم.
ألا رحم الله الفنان الشامل صلاح بن البادية وأحسن إليه وغفر له وأكرمه بقدر ما قدّم لأمته من عطاءٍ أدخل المسرة في القلوب وأثرى الوجدان بالفن الرفيع.