لا يخلو التعبير الذي اجترحه السيد الصادق المهدي في نص استقالته من رئاسة نداء السودان، حيث وصف التحالف السياسي العسكري الذي يقوده بأنه كان جسراً ما بين (أهل النهر وأهل الظهر)، لا يخلو هذا التعبير من دلالة ذات بُعد ثقافي اجتماعي متجذّر، عن منحى جهوي عميق، تتمثل مدلولاته في أن عبارة (أهل الظهر) هي تهذيب لعبارة أهل الضهاري، أي جموع القاطنين أو القادمين من القرى والمناطق القصية والبوادي والأصقاع النائية، ويكتنز المعنى بمحمولات ثقافية لا تخطئها العين ما بين أهل النهر وأهل الظهر، رغم أنه – ولربما – يكون معنى التعبير الذي أراده الإمام عن أهل الظهر، هو الجانب المشرق عن أهل الظهر وتبجيلهم وتجميلهم بأنهم هم الظهير والسند وحُماة القفا وحُرّاس الثغور والظهور، لكنه في مفهوم المُقابَلة ما بين النهر والظهر معنى بعيد، فالأقرب أنه أراد فقط الإشارة إلى الريف والبادية والمناطق الأبعد من النهر ومن فياح التنمية والخدمات والتطوّر المديني والنهضة العمرانية.
لكنه، وهو تعبير منحوت بعناية مثل كثير من منحوتات السيد الإمام وحفرياته اللغوية والتراثية لمعرفته الدقيقة بالتوصيف اللفظي وإلمامه الواسع بالثقافة السودانية، لا يمكن تجريد هذا المعنى المُراد من سياقاته وإيجاءاته السياسية والاجتماعية، فكون أهل النهر هم القاطنون على ضفاف الأنهار، وأهل الظهر هم بقية المناطق البعيدة عن النهر، وما اصطلُح بتسميتها بالمُهمّشة، فإن الإمام يؤمن إذاً بهذا التفاوُت الجهوي والتقسيمات على أساس الجغرافيا والتنمية الاجتماعية والفواصل الثقافية والتصنيفات التي تقوم علي أساس أكثر وضوحاً أن ما للنهر للنهر وما للضهاري للضهاري..
تقترن السياسة عن الساسة الكبار، وأصحاب التجارب الضخمة، بخلاصات معرفية تتقارَب مع الثقافة الشعبية السائدة، فلطالما ظلّت قضية المركز والهامِش وجدالها، هي المأزق الذي تمحورت حوله القضية السودانية منذ الاستقلال، وعمّق هذه القضية ليس الظلم والحيف وتغاضي النّخَب الحاكمة عن تقريب الشقة بين المركز والأطراف وعجزهم عن تنمية الريف ومساواته في التنمية والخدمات مع المركز، إنما غوّر جراحها هو ما تنزَّى وتجلَّى عنها من توصيفات جعلت الريف هو مجرد (ضهاري) تسير رديفاً للتخلّف الخدمي والتنموي والانسحاق الثقافي، فالريف مُستصغَر الشأن خاصة البعيد عن النهر، ومُحتقَر الرأي خاصة عندما كانت الطائفية السياسية تستخدم هذه (الضهاري) ككُتَل صوتية في الانتخابات يُصدَّر إليها المُرشّحون في الانتخابات، ويعول عليها في تقديم قيادات الأحزاب من أبناء المركز والمدن إلى قبة البرلمان .
ولعلّ السيد الصادق لم ينس وهو يطرق حديد هذا التعبير ليُخرِج معناه ويستلّه من تحت فحم الكير الذي نفَخ فيه، أن هناك جغرافيتين، ومجالين سياسيين، وتصنيفين لقوى نداء السودان، هو الذي كان رئيساً لنداء السودان ومعه بعض الأحزاب تمثّل النهر، والقوى التي تحمل السلاح وهي تمثّل أهل الظهر، فالجسر الذي يظن أن نداء السودان جسّده ومثّله لا يعدو في حقيقته غير ترافُق خطين مُتوازيين فقط، يسيران معاً لكنهما لا يلتقيان إلا في نقطة وهمية عند الأفق البعيد، صحيح أن نداء السودان كتحالُف معارِض للنظام السابق ومُكوّن من مكونات الحُكم الحالي، جمع كل هؤلاء الفرقاء ووثّق عرى نضالهما المشترك، لكنه لم يُخلّصهُما من المُتلازِمة التاريخية اللعينة، أن هناك أهل نهر وأهل ظهر يحتاجان إلى ما يربطهما ليكونا جسداً ونبضاً واحداً.