القدم في الخرطوم والعين في القارة..
تهتم فرنسا بملفات إقليمية في المنطقة، كان وسيظل للسودان دور كبير في تفاعُلاتها، وغير بعيد عن التنافس الأمريكي الفرنسي حول النفوذ في القارة الأفريقية، تشعر كثير من دول القارة العجوز أنها بحاجة إلى تعزيز نفوذها القديم، والإبقاء على تأثيرها خاصة أن هناك وافدين جُدداً على مناطق النفوذ القديم مثل الصين وروسيا، ولا نعتقد أن زيارات وزراء الخارجية من دول أوروبية للسودان في هذا التوقيت تتم لمُجرّد فتح صفحات جديدة وتهنئة المسؤولين السودانيين بتولي مهامهم وإبداء الرغبة في التعاون، فهناك إستراتيجيات مرسومة بدقة، وقضايا تتفاعل تطوّراتها تدفع بدول مثل فرنسا إلى إعادة قراءتها مرة أخرى واتخاذ مسارات للتعامل والتعاطي معها، وهذا هو ديدن السياسة الخارجية الغربية أنها تُعيد حساباتها المرحلية حسب خططها الإستراتيجية الموضوعة .
تحاول باريس الاستفادة من الدور السوداني لإعادة صياغة الأوضاع وسط القارة الأفريقية، خاصة في أفريقيا الوسطى ودول جنوب الصحراء، فأفريقيا الوسطى وهي مستعمرة فرنسية سابقة، انفجرت فيها الأحداث مُؤخّراً من جديد، رغم توقيع اتفاقية سلام بين الأطراف المختلفة في الخرطوم مطلع العام الجاري. ومن البداية لم تكن باريس تبدي ارتياحاً لتصاعُد الدور الروسي في هذه الدولة، كما أنها لم ولن تتجاوز الأدوار البارزة للتنين الصيني في مناطق غرب القارة وفي عمق الدول الفرانكفونية، وتزايُد حجم الاستثمارات والتبادُلات التجارية ومبيعات المنتجات الصينية في القارة السمراء الذي وصل في العام 2018 إلى (154,57 مليار دولار أمريكي)، بينما انخفضت بشكل ملحوظ مُعدّلات التبادُل التجاري مع أوروبا، وخاصة فرنسا التي من جانبها تُقدّم مساعدات لدول أفريقية قد تصل إلى أربعة مليارات يورو بحلول العام المقبل 2020.
ولعل هناك شواغل وانشغالات فرنسية مُلحّة تجعل من السودان محطة مهمة بالنسبة لباريس، فالقضايا التي تُؤرّق أوروبا مثل مكافحة الإرهاب في دول الساحل الأفريقي والصحراء، والهجرة غير الشرعية نحو الشواطئ الجنوبية لأوروبا، لم تعُد هموماً ثانوية، فقد لامست عصب السياسة والاقتصاد والمجتمع الأوروبي، وتبذل أوروبا مجتمعة أو منفردة أدواراً مختلفة لمجابهة هاتين القضيتين، منها التواجد العسكري في بعض بلدان غرب أفريقيا والمُساهمة في توفير ميزانيات ضخمة لمطاردة ومحاربة جماعات إرهابية ناشطة في هذه المناطق، فقد رُصِد ما يزيد عن مليار دولار تدفعها هذه الدول التي تتلقى مساعدات فرنسية بالتعاون مع دول خليجية وأوروبية تُقدّم مساهمات في التمويل .
وخلال الفترات الماضية لم تكن شبكة التحركات الفرنسية مكتملة في هذه المنطقة، ولا يبدو أن النفوذ كان كما يجب، فقد تراجعت إلى حد كبير أشكال التعاون المباشر مع بعض الدول في القارة حتى الفرانكفوني منها، بينما تصاعدت في دول أخرى، وكان للسودان خلال السنوات الثلاثين الماضية تعاون استخباري على مستوى عالٍ في ملفات عديدة تتعلق بالإرهاب وإعادة فك وتركيب للمكونات السياسية في بعض دول المنطقة وبنزاعات ومناطق توتّر مختلفة، لكن في الفترة الأخيرة شعر الفرنسيون أن نفوذهم المتراجع أصلاً سيكون ميراثاً لدول أخرى مثل روسيا التي تغلغلت بقوة في المستعمرات الفرنسية السابقة وصار لها وجود عسكري، وقطفت بكين ثمار الاستثمارات الضخمة والمشروعات الحيوية الكبرى.
إزاء هذا كله، يبدو السودان وهو عنصر فعّال في كيمياء السياسة والأوضاع الإقليمية في هذا الجزء من القارة السمراء، يبدو كنقطة دالّة وفاعِلة تحتاج فرنسا تطوير دور مشترك معها والاستفادة منها، خاصة مع تغيير اتجاهات الريح ودفة السياسة في السودان، حيث كانت هناك موانع خفّضت من مستويات التعاون بين الخرطوم وباريس، وجاء الوقت لزيادة الوتيرة والتفاهُم والتنسيق المشترك.. فزيارة الوزير الفرنسي للخرطوم ليست زيارة علاقات عامة أو مُحاولة استكشاف لمواقف الخرطوم وتوجُّهاتِها، وليست نتاج حماس ليبرالي أوروبي للديمقراطية الوليدة في السودان، هي زيارة من أجل مصالح حقيقية ومنافع متبادلة…