المثل المشتهر لدى العامة (استعجال الغنى فقر) ، وهو نفسه المعنى المفهوم الذي دلّت عليه القاعدة الفقهية المعروفة لدى العلماء :” من تعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه” وقد ذكر هذه كثير من العلماء في كتبهم حتى لا يكاد يخلو كتاب من كتب القواعد الفقهية من ذكرها أو الإشارة إليها.
وحيث تحمل الأخبار بين حين وآخر قصصاً لبعض من ضّيعوا الأمانات، ووقعوا في الخيانات المالية طلباً منهم للغنى بأسباب غير مشروعة ومحرّمة، استعجالاً منهم للحصول على الشيء قبل ميعاده، فإن التذكير بمثل هذا المفهوم الذي هو قاعدة شرعية بات من المهمات .. فمن قبض عليه وجُرِّد من الأموال المحرمة التي اكتسبها فقد تحققت فيه هذه القاعدة، ومن لم يقبض عليه فإن عليه أن ينتظر زوالها في القريب أو بعد حين، فإن من تعجّل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه. وهكذا من تعجّل المنصب قبل أوانه عوقب بحرمانه !!
ومعنى القاعدة إجمالاً: إن من تعجّل الأمور التي يترتب عليها حكم شرعي قبل وجود أسبابها الصحيحة لم يفده ذلك شيئاً وعوقب بنقيض قصده.
وقال بعض الفقهاء: “من استعمل ما أخره الشرع يجازى برده”.
وقال الشيخ السعدي في نظم هذه القاعدة :
معاجل المحظور قبل آنه قد باء بالخسران مع حرمانه
أي أن المستعجل للشيء المحرم عليه الآن مع أنه سيباح له بعد حين، ولكن لا يصبر حتى يأتي وقته فيستعجل سببه وطلبه فحكم عليه بأنه “قد باء بالخسران مع حرمانه”، أي أنه يصير إلى الخسارة مع حرمانه بالكلية مما استعجله وتسرع في حصوله، ولاستخدامه الوسائل غير المشروعة للحصول على مطلوبه.
ويعتبر استعجال الأمر قبل أوانه من التقدم بين يدي الله وعدم التسليم وقد قال الله تعالى : “يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم”، كما أنه سوء أدب مع الله تعالى .
فكل من توسّل بالوسائل غير المشروعة تعجلاً منه للحصول على مقصوده المستحق له، فإن الشرع عامله بضد مقصوده، فأوجب حرمانه جزاء فعله واستعجاله، لأن الشرع جعل للأشياء أسباباً، ولا تتحقق تلك الأشياء إلا بتحقق أسبابها.
ولمزيد من التوضيح يقال: إن من أجازت له الشريعة شيئاً في وقتٍ معين ثم تباطأ هذا الوقت وطال عليه الأمد، وحاول استعجاله بطرقٍ (ملتوية محرمة)، فإنه حينئذٍ يعاقب بحرمانه من ما هو مباحٍ له، ويحال بينه وبين حقّه، معاملةً له بنقيض قصده جزاءً وفاقاً، فكما أنه أراد الوصول للمشروع بوسائل محرمة تعجلاً منه للحصول على مقصوده المستحق له؛ فإنه يعاقب بالحرمان منه، وهذا هو العدل، فإن هذا الحق الذي جعل صاحبه يقع في الحرام من أجل استعجاله، لا خير فيه، وحقه أن يمنع منه، وهذه القاعدة العظيمة تمثل جانبًا من جوانب السياسة الشرعية في القمع وسد الذرائع؛ ولأن فعل ذلك الشخص الذي أراد الوصول إلى حقه بطرقٍ محرمة يُعَدُّ تحايلاً على الشرع من جانبٍ آخر، فعنده بليتان:
أحدهما: أنه وقع في المحرم استعجالاً لحقه .
الثانية : أنه تحايل على الشرع بسلوك هذه الطرق للتوصل إلى حقه، فعوقب بحرمانه من هذا الحق أصلاً.
والأمثلة التي ذكرها الفقهاء لهذه القاعدة كثيرة جداً منها:
ـ حرمان القاتل من الإرث، فمن قتل مورثه فإنه يحرم من الميراث، لأنه استعجل إرثه من المورث قبل أوانه فيعاقب بالحرمان، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “القاتل لا يرث” رواه ابن ماجة والترمذي والنسائي وصححه الألباني، فإن استعجال الوارث قد حرمه من حقه الذي كان سيأخذه إن لم يتعجل.
وأيضاً لو قتل المُوصى له الموصِي فإنه يُحْرَم من أخذ الوصية التي كان سيأخذها لو لم يستعجل موت الموصي بقتله.
ـ من أخذ من الغنيمة قبل قسمتها وهو ما يعرف بــــ” الغلول” فإنه يحرم من نصيبه في الغنيمة.
وتجري أحكام هذه القاعدة في الأحكام الدنيوية والأخروية ، فإن الله تعالى حرم على العباد محرمات في الدار الدنيا ووعد الصابرين على تركها بالجزاء العظيم في الآخرة ومن الجزاء إتيانها في الآخرة، ولكن من تعجل شهواته المحرمة في الدنيا عوقب بحرمانها في الآخرة ـ إن لم يتب منها ـ قال الله تعالى :” وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ”.
فمن شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة، قال النبي صلى الله عليه وسلم : “من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة”، متفق عليه.
وأيضاً من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة . قال عليه الصلاة والسلام :” من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة” متفق عليه ، والجزاء من جنس العمل .
وبنظرة لواقع حياتنا فإننا نجد كثيراً من الأمثلة والنماذج لهذه القاعدة ، فمن يتأمل أسباب دخول كثير من الناس (الرجال)، بل في بعض المجتمعات حتى (النساء)!! في الأزمنة المتأخرة في السجون بسبب المال يجد أن كثيرين منهم قد كان استعجالهم لتكثير المال والغنى قبل أوانه هو الذي أوقعهم في ذلك، ولم يكن دخول كثيرٍ منهم بسبب متطلبات المعيشة العادية، أو ما شابه ذلك، وإنما السبب في كثير من الحالات هو: الطمع في الغنى وتكثير المال.
فيأخذ الواحد منهم قرضاً ضخماً ـ وأحياناً ربويّاً ـ ثم يعجز عن سداده ويدخل في قرضٍ آخر ليحل به القرض الأول ويدخل في مسلسل طويل ليسدّد قرضاً بقرض آخر مع زيادة ومضاعفة الدّيْن ويسهّل عليه ذلك الجهات المستفيدة من تلك القروض، وأحياناً يوقعونه في بيع (العِينَة) وهكذا يستمر حتى يتم القبض عليه وتبدأ رحلة طويلة ومسلسل تضيع معه الأعمار والأوقات وغير ذلك مما لا يعلم آثاره السيئة إلا الله سبحانه وتعالى.
فإن من تعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه…
والمؤسف أن يتعجّل بعض من أسندت لهم مهام ووظائف عامة فيستعجلون الغنى المحرّم من أموال الفقراء والمساكين وعامة الشعب، بما سارت بأخباره الركبان، وهذا أعظم ضرراً وأكبر خطراً وأعظم إثماً.
إن كثيراً من النصوص الشرعية تفيد أن العبد يعامل بنقيض قصده السيئ ولذلك فقد حكم الصحابة ـ عليهم الرضوان ـ بتوريث المرأة التي طلقها زوجها طلاقاً بائناً وهو في مرض الموت ليحرمها من الميراث، فورثوها معاملة له بنقيض قصده، والجزاء من جنس العمل .
وكما أن المتعجل للمحظور يعاقب بالحرمان فمن ترك شيئاً تهواه نفسه عوضه الله خيراً منه في الدنيا والآخرة ، فمن ترك معاصي الله ونفسه تشتهيها عوّضه الله إيماناً في قلبه وسعة وانشراحاً وبركة في رزقه وصحة في بدنه مع ما له من ثواب الله وأجره الذي لا يقدر على وصفه.