هل تُوقَّع اتّفاقيتان لإقليم جبال النوبة واحدة مع الحلو وأخرى مع عقار وجلاب؟
* بدأت جوبا كمدينة تخرج من قاع الحرب وتقلع عن ماضٍ يشدها إليه التاريخ والثقافة، وحاضر تصنعه خيارات السياسة التي جعلت جوبا أقرب لكمبالا ونيروبي من الخرطوم وكوستي.
جنوب السودان يخرج الآن ويمد عنقه لغدٍ أفضل من الأمس، بعد أن اقترب الفرقاء السياسيون من العودة مرة أخرى للتعايش والتعاون وتقاسم السلطة في بلد هي الأغنى في وسط وشرق أفريقيا، ولكنها الدولة الأولى في العالم التي تحتضن في أرضها أكبر بعثة للأمم المتحدة في العالم عبر ذراعها الإغاثي “برنامج الغذاء العالمي”، وهي الدولة الوحيدة الآن في العالم التي يتناول بعض مواطنيها غذاءهم عن طريق الإسقاط عبر الطائرات، وتنفق الأمم المتحدة نحو ٢ مليار دولار سنوياً لتوفير القوت لنحو ٩ ملايين نسمة .
فكيف تنهض هذه الدولة من تحت الرصاص والموت بالآلاف إلى دولة يعيش مواطنوها كرماء شرفاء لا يقتل بعضهم بعضاً.
في مطار جوبا الصغير الذي تم تأهيله العام الماضي لا تتوفر بصات لنقل الركاب القادمين من سلم الطائرة إلى الصالات الخارجية، لكن إجراءات الدخول لا تستغرق أكثر من بضع دقائق ولا تميز بين الوطني والأجنبي في المعاملة.
كاكو كيفنكم؟
* “الكاكو” قبيلة عريقة تقطن غرب الإستوائية وبعضهم داخل يوغندا، وأشهر فنان من جنوب السودان ينتمي إلى هذه القبيلة، يوسف فتاكي صاحب أغنية جوبا ياي، وقيل إن جوزيف كوني قائد جيش المقاومة الآلهي في شمال يوغندا ينتمي إلى قبيلة الكاكو، وجيش المقاومة الالهي يزعم قائده بأنه مكلف من الرب لتطبيق عشر وصايا يقول إنها تنزلت في الإنجيل.
وجوبا تمثل العاصمة السياسية لجنوب السودان، ولكن لها أهمية كبيرة لدول الإقليم التي تسابقت نحوها بعد انفصالها من الشمال، هرع إليها اليوغنديون والإثيوبيون والكينيون ولكن السودانيين لسوء التقدير وبؤس التفكير وسطوة العنصريين على القرار في الدولة الشيئ الذي جعل الجنوب يتجه جنوباً اكثر في سوق (كستم) مدت لي فتاة سمراء قصيرة القامة كوب الشاي، وقالت بلغة عربية فصيحة إنشاء الله الشاي ينال إعجابك؟
قلت لها تتحدثين العربية الشمالية وليس عربي جوبا ضحكت وقالت عمو نقول ليك أنا درست في أمدرمان الثانوية، وكنت مسلمة، ولكن الآن أصبحت كافرة ضحكت وضربت يدها بفخذها.
تركت التعليق على حديثها الحزين، وتذكرت مصطفى بيونق ابن منطقة أبيي الذي رحل عن الدنيا قبل سنوات، وتركنا نكابد مهنة المتاعب، وهو كان واحداً من أميز محرري القسم الإنجليزي بوكالة السودان للأنباء.
وجوبا هي موطن قبيلة “الباريا”، يجاورهم من الشمال “المنداري” ومن الجنوب “الزاندي” و”الكاكو” من الغرب وقليل من “المورلي”، ولكن “الدينكا” هم الآن وأمس الأكثر عدداً والأوسع نفوذاً في الدولة الجنوبية منذ اتفاقية ١٩٧٢ وحتى الانفصال وميلاد الدولة الحالية.
“جوبا” أخذت تقترب بمعمارها من شرق أفريقيا وتبتعد عن المعمار السوداني التقليدي رغم الوجود الكبير لأبناء دارفور في جوبا، وهي تعتبرهم ضحايا مثل الجنوبيين في السودان القديم الموحد.
القاهرة في خط الرعاية
*تظل القاهرة العاصمة الثانية بعد “جوبا” الأقرب لوجدان السودانيين، والأكثر ارتباطاً بهم، مصر كانت الملاذ لطلاب العلم والعلاج والسياح، ولا تزال تحتضن الآلاف من أبناء السودان، تتبدل الأنظمة وتسقط الحكومات ولا تتبدل مواقف مصر من السودان وأهله، صحيح في سنوات القطيعة والمد والجزر هبت عواصف مرعبة على العلاقةن وخسرت مصر الكثير ببعدها عن السودان.
في الفترة الأخيرة وعند التوقيع على اتفاق الشراكة بين العسكر وقوى الحرية والتغيير المشهود عليه إقليمياً ودولياً، و هتفت حينذاك عناصر قوى الحرية والتغيير عالياً لإثيوبيا وخافتاً لمصر تعبيراً عن عدم الرضا، ولكن مصر الآن تدفع مصر باتجاه المساهمة في تحقيق السلام في المنطقتين ودارفور واللقاء الذي دعت إليه القاهرة في العشرين من الشهر الجاري يمثل خطوة عملية في هذا الاتجاه ..
الغد والملف السوداني
بينما كانت القناة الرسمية تلفزيون السودان يخصص برنامجه بعد نشرته الرئيسية لأغاني الحقيبة، كانت قناة “الغد” تخصص مساحة لتقارير مندوبها في جوبا محيي الدين جبريل الذي فتح أبواب القناة لكل ألوان الطيف السياسي، ووجدت تغطيته قبولاً من الشارع السوداني العريض لحياده ومهنيته التي رفعت من قيمة مشاهدة القناة التي كانت حتى عهد قريب لا تحظى بمتابعة السودانيين مثل بقية القنوات، لكن جودة المحتوى جعلها تحتل المرتبة الثالثة من بين القنوات الفضائية الأجنبية، وإذا ما سارت القناة على منهجها الحالي ربما قفزت عن قريب إلى المرتبة الثانية في ترتيب القنوات الأكثر مشاهدة. وتمدد اهتمام “الغد” بجنوب السودان، حيث يتواجد مدير مكتب القناة الآن في جوبا لتغطية الأحداث ومحاورة النخب الجنوبية، وهي خطوة جيدة من صحافي موهوب اسمه محيي الدين جبريل.
وتنشط التجارة بين دبي وجوبا وسنغافورة والصين ومصر، بينما تستورد دولة الجنوب احتياجات مواطنيها من دولة يوغندا التي تطعم جوبا بالطماطم والفجل والبطيخ والأسماك والموز، بينما الذرة من السودان عن طريق التهريب بسبب إغلاق الحدود الذي يستفيد منه صغار الموظفين والعسكريين في الحدود، وتخسر الدولة ملايين الدولارات يومياً.
في جوبا تشاهد العمارات التي توقفت بسبب الحرب التي عطلت انطلاقة دولة غنية يصل الاحتياطي النفطي في حوض أعالي النيل وحده ترليون برميل من النفط الخام، وتستطيع دولة الجنوب رفع إنتاجها إلى ٥٠٠ ألف برميل في اليوم، وهذه الكمية كافية لسد احتياجات الدولة الضرورية والتي لا تعاني من ترهل في الخدمات بقدر معاناتها من ترهل الخدمة المدنية. ويعيش موظفو الدولة على رواتب لا تتجاوز المائة دولار لموظفي القطاع العام، و٢٠٠ دولار لراتب القطاع الوظيفي، والـ١٠٠ دولار تعادل ٣٥ ألف جنيه جنوبي، بينما الـ١٠٠ دولار تعادل في الخرطوم حولي ٦ آلاف وستمائة جنيه.
ويبلغ سعر صحن الفول المصري بالبيض والجبنة و٢ عيشة ٤٠٠ جنيه، وكباية الشاي السادة بمبلغ ٥٠ جنيهاً، ولكن أسعار الفنادق في جوبا مرتفعة جداً الفندق خمسة نجوم يبلغ سعر الغرفة الليلة الواحدة ٣٠٠ دولار، والفنادق التي لا توفر الكهرباء طوال اليوم ٥٠ دولاراً لليوم الواحد، وسعر كيلو اللحمة ١٥٠٠ جنيه، ولكن سوق الأجهزة الإلكترونية يزدهر في العطلات والأعياد.
وسياسياً الساحة الجنوبية منقسمة ما بين الحكومة وبعض المعارضين أبرزهم بطبيعة الحال د. رياك مشار الذي فقد الكثير من رجاله، ولكنه لم يفقد رمزيته كقائد فذ يتكئ على أكتاف القبيلة الثانية من حيث العدد “النوير”، بينما نجح الفريق سلفاكير ميارديت في اللعبة السياسية وفق معادلة السلطة والشارع العريض، ورغم محاولة المجتمع الدولي الغربي إزاحته عن السلطة، لكنه قاوم بدهاء واستفاد من حماية يوري موسفيني للنظام الذي بلغ حد تدخل القوات اليوغندية والقتال إلى صف سلفاكير في حربه مع مشار.
وحدة الحركة الشعبية؟
* مرض السلطة والصراع حول مغانمها يصيب الحركات بالتصدع والانقسام ومن ثم السقوط من سدة الحكم، وإذا كانت السلطة قد أصابت أكبر حركة إسلامية في أفريقيا وصلت للسلطة بانقلاب عسكري في السودان بالانقسام والتصدع والضعف، ومن ثم السقوط من الحكم، وهي حركة عقائدية، بينما الحركة الشعبية نشأت كحركة مقاومة تحررية على خطى حركات التحرر الأفريقية في كل من تنزانيا وغينيا وغانا والسنغال وجنوب أفريقيا، ولكن الحركة الشعبية بعد أن دان لها الجنوب لم تفطن لخصائص البشر وحاجة الإنسان لخيارات يأخذ منها ما يروق له ويترك الآخر.
تصدعت الحركة الشعبية وانقسمت وتقاتَل قادتُها بعد أن فقدت قائدها السياسي ومفكرها وملهم الجنوبيين النضال وعدم الخنوع، وبموت جون قرنق بدأ ذبول المشروع وتفرق صناع مجده ما بين تلاميذ مخلصين للفكرة وحواريين انتهازيين أغرتهم السلطة فمالوا معها حيث مالت، وجاءت عاصفة الانقسام وزعازِعها، وبات ياسر عرمان أجنبياً في جوبا رغم تقدير شعب الجنوب له، وأصبح مالك عقار إير وعبد العزيز الحلو وياسر جعفر مطالبين بالبحث عن سبيل لتطبيق نموذج لا يروق لاهل الشمال رؤيته، بديلاً لمشروعات الدولة الشمالية الغارقة في انتهازية العسكر وشمولية الطائفية.
الآن يقف سلفاكير بسلطته رئيساً للحركة الشعبية، ويقف دينق ألور مفاوضا ابن عمه نيابة عن بعض الرفاق، وفاقان أموم فتى الشلك في الولايات المتحدة يكتب ويتحدث عن الحركة الشعبية الأصل، ولوكا أبيونق خرج مطروداً من جوبا، وآلاف الجنوبيين في الخرطوم يجترون في امسيات الكلاكلة وأركويت والدروشاب ذكريات الامس بحلوها ومرها، ويترقبون العودة لأرض ضاقت بأهلها.
وقد طُرحت قضية وحدة الحركة الشعبية، ولكن السلطة تحول دون تحقيق هذا الحلم النبيل، والقادة العسكريةن بطبيعتهم وثقافتهم لا يطيقون جدل الحزبية ويريدون حزباً طوع البنان يتم وضعه في الشفتين كزينة الفتيات أيام الأفراح والليالي الملاح. ورغم الجهود الدولية والإقليمية لوقف الحرب في الجنوب لكن لا تزال المسافة بعيدة جداً بين الفرقاء الجنوبيين، وأكثر القضايا الخلافية هي عدد المقاطعات التي تمدد الرئيس سلفاكير في مضاعفة أعدادها، وبين مشار الذي يريدها ١٢ مقاطعة كحد أقصى وقضية الترتيبات الأمنية والعسكرية التي بدأت خطوات أولية بدعم من المجتمع الدولي لإنفاذ الاتفاق حولها، إلا أن عقبات عديدة تواجهها.
هل تصبح جوبا راعياً لاتفاق السودانيين المنتظر؟
* لا يختلف اثنان من السودانيين حول تأثير العامل الجنوبي في صعود وخمود الحرب في السودان. ولا يختلف السودانيون على أهمية دور حكومة الجنوب في حمل الأطراف على الاتفاق الأخير الموقع بين المجلس السيادي والجبهة الثورية التي تضم كل يوم فصيلاً من فصائل المقاومة التي تبعثرت في الفيافي والعواصم، وآخر المنضوين للجبهة الثورية مجموعة الطاهر حجر، وقد أسندت الجبهة الثورية رئاستها لشخصية لم يسبق لها قيادة تحالف عريض يضم كيانات عديدة، ولكن فجأة وجد د. الهادي إدريس نفسه رئيساً لأكبر التحالفات المسلحة، وهو يمثل مجموعة نمر عبد الرحمن الشاب الشجاع المقاتل، وقد خرج من حبل المشنقة بعد ثورة ١٩ ديسمبر التي أطاحت بحكم البشير، وجاءت مفاوضات المجلس السيادي بقيادة الفريق أول محمد حمدان دقلو الشهير بحميدتي، لتضع حداً للتراشقات التي سادت الساحة السياسية في الداخل بعد أن شعرت مكونات الجبهة الثورية بخيانة رفقاء النضال من قوى الحرية والتغيىر التي أغرتها الكراسي وانستها رفاق البنادق في ليل النضال الطويل من أجل التغير وقوى الكفاح المسلح التي وجدت نفسها خارج أجهزة الحكم الانتقالية، وبعيدة عن أحلامها في رؤية المشكلات والقضايا التي حملتها على حمل السلاح تتحقق، فآثرت المقاومة وتهديد “قحت” بذات الآليات التي أسقطت نظام البشير، ولكن وجود رجل مثل حمدوك في رئاسة الوزراء وشخصية مثل الفريق أول محمد حمدان دقلو في مجلس السيادة وتملك القوة العسكرية على الأرض وخبرة قادة الحركات المسلحة في القدرة على المناورة وتحريك الأوراق من تحت الطاولة، وبالجبهة الثورية نجوم سياسية لو قُدّر لقوى الحرية والتغيير الاستفادة منهم لتبدل حالها، ولا نشير لياسر عرمان وحده، ولكن هناك جبريل إبراهيم ومالك عقار برمزيته، وأسامة سعيد برؤيته، ومني أركو مناوي بواقعيته، أي من هؤلاء يستطيع لعب دور سياسي كبير بنقل تحالف قوى الحرية من حالته الراهنة لتحالف سياسي عقلاني وواقعي، ولا استقرار وديمقراطية من غير سلام يخاطب جذور قضية جبال النوبة والنيل الأزرق ودارفور والشرق.
حتى الآن نجحت جوبا في وضع الحصان أمام العربة، ولكن هل بمقدور جوبا أن توفر العلف للحصان وهي التي تنال علف شعبها من ما تجود به بعثة برنامج الغذاء العالمي التي تعتبر الاكبر في افريقيا والعالم؟
وحالة الانقسام في صفوف حركات الكفاح المسلح تمثل عائقاً أمام الوصول لاتفاق سلام يحظى برعاية من دول عربية وأفريقية تملك الثروة والقدرة على مساعدة السودانيين في تنفيذ برامج إسعافية ليشعر أهالي مناطق النزاع بأن فجراً جديداً قد أطل،
الاتفاقيات التي تعتبر إعلان مبادئ للحل وُقّعت من الجبهة الثورية والحركة الشعبية قطاع الشمال جبال النوبة، وهناك أيضاً الحركة الشعبية قطاع الشمال بقيادة مالك عقار !!
الحلو يتمترس في موقعه ويرفض حتى البحث عن شركاء وأصدقاء لمشروع التسوية، ولم يتعلم الحلو من أستاذه جون قرنق الذي شكل تحالفات لأصدقاء الإيغاد وشركاء للإيغاد، كل ذلك لتوفير الدعم والسند لمشروع التسوية.
والآن تم حسم مسألة مقر التفاوض والتوقيع بين الحلو والحكومة في جوبا بينما تركت الجبهة الثورية الباب موارباً يسمح بدخول شركاء عرب وأروبيين وأفارقة، وتترقب الجبهة الثورية مشاورات تعقد في القاهرة العاصمة المصرية في العشرين من الشهر الجاري بحضور الإمارات والسعودية، وربما دخلت قطر على خط الرعاية.
وتلك خطوة ذكية جداً من الجبهة الثورية.
في المقابل يثور وينهض سؤال: هل يتزحزح الحلو عن مواقفه الحالية ويدخل التفاوض مع الجبهة الثورية بوفد مشترك حول قضية واحدة؟
أم يتم التوقيع على اتفاقيتين مع حركتين لمنطقة واحدة؟ وإذا كان للحركة الشعبية برئاسة الحلو وجود كبير في جبال النوبة، فالحركة الشعبية الثانية أيضاً برئاسة مالك عقار والأمين العام خميس جلاب لها وجود حقيقي في جبال النوبة خاصة الجبال الغربية ووسط النخب والمثقفين.