اختار الرئيس الإريتري أسياس أفورقي أن يزور السودان على طريقته، زيارة رسمية ثنائية لا موزّعة الأضواء ولا مشتّتة الاهتمامات، لم يختر أن يأتي للخرطوم وسط لفيف من ضيوف المناسبات التي تجمع الكل من رؤساء الدول وقادتها من حولنا في محيطنا الإقليمي والقاري، ويبدو لخصوصية العلاقة التي تربط البلدين وشجنه الخاص، لا يحب في السودان المزاحمة والزحام، يُريد أن يخلو له وجه الخرطوم التي يعرفها وتعرفه ويعرف نبضها وتفاعُلاتها وهمسها وجهرها، والمعروف أنه يكِنّ شعوراً خاصاً ودافقاً تجاه السودان والسودانيين يُعبّر عنه بلغته ووسائله وطُرُقه الخاصة.
رغم حالات الخلافات التي نشبت بين البلدين في العهد السابق، فهو لم يزل يعيش بروح وعقلية الثائر القُح، وليس بسمْتِ السياسي ورئيس الدولة الذي تحكمه البروتكولات والحدود الدبلوماسية التي تقف حاجزاً أمام كثير من القادة والرؤساء تمنعهم من دلق مشاعرهم ومواقفهم الخاصة والتعبير على هواهم وطريقتهم الخاصة.
وتتشابه طريقتا الرئيس أسياس والزعيم الليبي الراحل معمر القذافي، ويتشابهان في طريقة التفكير والنظر إلى القضايا المُختلفة وكيفية إبداء الرأي حولها بصراحة ووضوح أكثر مما يجب، بجانب ثقافة عالية واهتمامات فكرية وحصيلة ضخمة من المعلومات ونمط التنظير الإستراتيجي.
لم يكُن الرئيس أسياس بعيداً عن ما يجري في السودان، تغيَّرت مواقفُه باستمرار، كان حليفاً للإنقاذ في بداياتها وبداياته مع استقلال بلاده، ثم ما لبث أن اختلف معها، وأوى إليه كل فرق المعارضة السودانية بلا استثناء، وأفرد لها ملاذات في بلاده ودعمها بكل أنواع الدعم، ومن أسمرا وُلِد التجمّع الوطني، ومقررات أسمرا التي مَهّدت الطريق إلى تسوية قضية جنوب السودان في نيفاشا الكينية، لأنه لولا القبول بتلك المُقرّرات التي صِيغَت وأُعلِنت في مؤتمر القضايا المصيرية، لما استوت سفينة القضية السودانية يومئذٍ على جودي التفاوض والسلام، لكن أسياس لم يكن مع تقرير مصير جنوب السودان، ولا انفصال الجنوب بعد ذلك، وعاد حليفاً وصديقاً للخرطوم، تتأرجح العلاقة مع رياح السياسة يمنة ويساراً، لكنه لا يكتم ما برى جسده من حب الخرطوم والسودانيين، وتجري على لسانه لهجتهم وعباراتهم ويسكنه مزاجهم أيضاً.
ما لم يكشفه أفورقي كثيراً، أن لديه تصوّراً للتدافُع التاريخي والحضاري للمنطقة من القرن الأفريقي مروراً بالصحراء الكبرى حتى الساحل الغربي للقارة الأفريقية عند عتبات المحيط الأطلسي، حيث السمات الحضارية واحدة والمنبت العرقي يخرج من رحم وترائب واحدة، تتقارب الألسنة والسحنات والمشاعر والتجليات الثقافية، وترتبط المنطقة بحقائق جيواستراتيجية تجعل من ضرورات التئامها وترابطها، أمراً حتمياً مهما فرّقت السياسة بين مُكوّناتها أو غابت عنهم كامل المنافع والمصالح التي تجمعهم، ومثله مثل كثير من أهل السياسة الاستبصارِيين يرون أحلامهم في الأفق البعيد ولا يرغبون أبداً في النظر إلى تحت أرجلهم، فالقرن الأفريقي الكبير، وامتدادات السهوب والسهول والصحراء والغاب من شرق القارة حتى غربها، واندياحاتها جنوباً، هي بعض أفكاره وأحلامه وتصوّراته، وربما تتعمّق أكثر وهو يتّكئ على كتف الخرطوم ينظر إلى تحوُّلاتها الجديدة، هل هي خصم على تلك الرؤى والتصوّرات أم دعم لها وتجسيد لحركة التاريخ المُفضي إلى نتائجه القريبة والبعيدة .
الشيء الثاني، أن الزيارة لمدة يومين، ستكون فرصة كافية له حتى يعرِف كيف تُفكّر الخرطوم الجديدة، وسانحة لتحسُّس عقلها الظاهر والباطن، فعلاقاته مع الأطياف السياسية السودانية تُمكّنه من معرفة الكثير. لكن وافدات جديدة طرأت على المشهد السياسي السوداني وأجسام وأسماء وأجيال ظهرت وتصدّرت المشهد، ليسوا من مُجايليه ومُعاصريه، قد لا يفكرون بطريقته، ولا يلتقطون إشاراته المُباشِرة وغير المُباشِرة، وقد لا يستطيع هو أن ينطلق من الأرضية الجديدة باعتبار أنه لم يعهد الخرطوم وهو رئيس وحاكم في بلاده كهذه المرة، ترفل جارته الخرطوم في تعددّيتها السياسية وتركيبتها الحاكمة، بمجلسها السيادي الأحد عشري، وحكومتها المؤلفة من أحزاب وشخوص لا يُمثّلون مُجتمعاً سياسياً من ناشطي منظمات مجتمع مدني، وأكاديميين لا صلة لهم بالسياسة وفن الحكم، سيرى بنفسه كم تغيّرت الخرطوم من آخر مرة رآها.. فلابد أن مستقبلها تراءى أمامه وتراءت له أحلامه العتيدة بقرن أفريقي كبير، ووشاح أفريقي يمتد من المحيط إلى المحيط..
مرحباً بأسياس…