(أ)
في أبريل من العام 2015م، أرفقت مجلة العربي الكويتية في عددها الصادر في هذا التاريخ ضمن سلسلة كتبها الراتبة، كتابها رقم (100) بعنوان (نافذة على قصائد الشعراء في العربي) ويحتوي الكتاب على مائة قصيدة من كرائم وعتاق القصائد التي نُشرت في المجلة من عددها الأول الذي صدر في ديسمبر 1958م ، حتى العدد الصادر في ديسمبر 1989م،
ولم تتوقف المجلة من تاريخ صدورها حتى اليوم، ونشرت المجلة هذا الكنز الشعري الضخم بذات الطريقة التي رأت النور لأول مرة على الصفحات وبذات الرسومات القديمة لتشكيليين غادروا الحياة مثل كثير من الشعراء وأصحاب القصيد الجميل الذين ملأوا السماء العربية في عصرنا الحديث وتلألأ بريقهم كالنجيمات المضيئة ولم يخفت لهم ألق وابتسام نشيد ..
والقصائد التي أعيد نشرها بثوبها القديم ورسوماتها ونضارة معانيها وحرفها لأسماء كبيرة في خارطة الشعر العربي (محمود غنيم، هلال ناجي، بدر شاكر السياب، أنور العطار، نزار قباني، الياس فرحات، أحمد السقاف، أحمد صافي النجفي، حسن كامل الصيرفي، عزيزة هارون، بندر عبد الحميد، محمود البارودي، جورج شدياق، محمد خليفة التونسي، محمود حسن إسماعيل، عيسى عصفور، عبد العزيز المقالح، أحمد عبد المعطي حجازي، مبارك المغربي، حسن عبد الله القرشي، صلاح عبد الصبور، خير الدين الزركلي، راضي صدوق، محمد عبده غانم، محمد إبراهيم أبو سنة، يس الفيل ، أحمد بلحاج، آية وارهام، زكي قنصل، فاضل خلف، فدوى طوقان، طاهر أبو فشا، يعقوب السبيعي) وغيرهم من الأسماء التي زانت الأجواء العربية بعبير الشعر وأزاهره النضيرة لعقود طويلة في القرن العشرين، ولا يزال بعض هذه الأسماء يعاند الزمن ويطلق بخور آهاته الحرى في وجه الزمان ..
(ب)
ذكرني الكتاب بقصائده ورسوماته، بأرتال من مجلة العربي تتكوم وتتراص أعدادها القديمة بمنزلنا بنيالا في مكتبة والدي رحمه الله، وعندما تفتحت عقولنا على القراءة التهمناها ثم صارت رفيقة لنا نحتضنها بشرائها من مكتبة عبد القديم أو مكتبة الفجر الجديد وسط سوق نيالا حتى نستلقي بها في ساعات الظهيرة والعصر في المنزل، فكل عدد جديد منها كانت لنا معه قصة ووشيجة كأنها بعض من الأحشاء والدم، ولاتزال رائحة الورق والأحبار وسحرها عالقة في الروح كأنها طازجة مع الأيام لا تزول ، وأذكر تلك النهارات والعشيات المبللة الثياب من مطر الأشعار، والمجلة تتراءى أمامي كقطعة من خمار السماء، مليئة كانت بالفكر والآراء والمعلومات والمقالات العلمية والطرائف العربية والغربية والشعر والشعراء وأخبار العلم والطب والاختراع والرحلات حول العالم والمدن والعواصم والأصقاع .. ولكم كانت (العربي) في تاريخها الزاهي منارة سامقة من منارات المعرفة ظلت صامدة مع الأيام والسنوات، لم تتراجع أو تضعف، من عهد رئيس تحريرها الشهير أحمد زكي إلى رئيس تحريرها الحالي د.عادل سالم العبد الجادر، وقد عبرت من بوابتها الضوئية الضخمة آلاف النقاد والكتاب والمثقفين العرب، رفدوا الساحة العربية بعصارات الفكر والمعرفة والعلم والإبداع في مختلف المجالات ..
(ت)
منذ أبريل من هذا العام 2015م ، لم يفارقني كتاب العربي رقم (100)، فيه وجدت تاريخي وحياتي الطالبية وعنفوان الصبا، عندما كنا نحب الشعر ونحفظ الجيد من القصيد، لكن الذكرى الأجمل والأبقى، هي تلك القصائد التي كُنّا ننقلها أو نحفظها من صفحات مجلة العربي أنا والأخ الصدوق الصديق الوفي الشهيد المغفور له بإذن الله (عبد الحي الربيع)، لنقدمها أمام الجمعية الأدبية بمدرسة نيالا الأميرية المتوسطة، وتلك كانت هي النواة الأولى لعبد الحي حتى صار إذاعياً مخلصاً وصوتاً شهيراً، عاش لمهنته وموهبته وإبداعه حتى لاقى ربه وهو في ساحة العمل والدأب والحرص والمثابرة على قمة جبل تلودي..
وكان عبد الحي بصوته الندي ونحن في شرخ الصبا لم نبلغ الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة من أعمارنا، يقف في الجمعية الأدبية على خشبة المسرح الضخم في المدرسة العريقة وهو يقدم قصيدة لعبد العزيز المقالح الشاعر اليمني الكبير ولا تزال الأشجار والداخليات ومباني الفصول وجدرانها تردد صدى صوته:
بكاء عينيه أفنى الضوء والحدقا
وجفنه في مرافئ دمعه احترقا
هيمان .. حيران لا الأشجان تغسله
في بحرها، لا.. ولا في بحرها غرقا
يا ويحه كم يعاني من مطامحه
وكم يكابد من أشجانه حرقا
بصوته دق باب الشرق فانتحرت
به القوافي ومن أصدائها شرقا
تعثر الليل في عينيه واحترقت
محاجر الفجر في أجفانه شفقا
يا من على البعد يبكي نار غربته
وأنا على القرب نصلي نارها الأرقا
تمرغت في دموعي كل عاصفة
وأوقدت في دمائي الرعب والفرقا
أشجار شعري على الشطآن يابسة
جفت، فما أثمرت ورداً ولا ورقا
هي القصائد تدميني بجذوتها
وفي خلايا دمائي سيفها برقا
أشدو بها في سواد الليل منطرحاً
وفي ضحى الفجر أشدوهن منطلقا
أذود عنها ذئاب الليل، أحملها
في مهجتي رعشة في خافقي قلقا
كانت لنا في ليالي عشقنا طرباً
فأصبحت في ليالي بؤسنا رهقا
تعاظم الليل في دربي وأذهلني
ألا أرى فسحة في الأرض أو نفقا
إني لأقرأ صبحاً خلف ظلمتها
وألمح الفجر من أشواقها انبثقا
(ث)
كانت النفوس كباراً يومئذ، تعبت في مرادها الأجسام، لكنها لم تذهب ولم تأتِ تلك الأحلام والأمنيات النفيسة الغالية، أجساد هزيلة مرفرفة بأرواحها في مساء بعيد، كان عبد الحي الربيع وعارف تكنة والفاضل إدريس حامد وعبد الإله وداعة، يجلسون أمام الحضور ذات ليلة، وكنت أقدم موضوعاً عن حركة (الماو ماو) أخذته من مجلة قديمة ممزقة الغلاف، وكانوا كهيئة محلفين يناقشون الموضوع، كيف تحررت كينيا وماذا قال جومو كينياتا في ليلة الانعتاق الكبير .. والحضور من الآباء والمعلمين وتلاميذ المدرسة يصفقون لعبد الحي وهو يلتقط من أسماع التاريخ قصيدة لمحمد الفيتوري من ديوان (أذكريني يا أفريقيا) وبكفيه الضخمتين يصفق الأستاذ صالح حمزة، وبصوته الجهير يصيح ???? لله درك يا بني) .. والفتى النحيل يبتسم في حياء ولم يدرِ أن الطريق أمامه قد تمهد وتعبد وطله وابل من عبير الخلود ..
كانت الحياة تمضي والزمن يغرز أشواكه على ظهورنا وأقدامنا، ويتفرق الجمع العجيب، بعد أن فعلت عشرات الليالي من الجمعيات الأدبية والدورات المدرسية فعلها، حيث صقلت تلك المواهب وجمّرت ذلك الذهب الأصيل، فلم تلبث تلك الموهبة النادرة إلا بضع سنوات قليلات إلا وصوت الفتى عبد الحي يصدر عبر الأثير من إذاعة أم درمان وقبلها إذاعة نيالا، والحروف الفائحات كصندل الجنان يتناثرن يمنة ويسرا وتمتد جذورها إلى تربة تلك الأيام بمدرسة الأميرية المتوسطة والأمسيات المثقلات بالثقافة والآداب والفنون ..
(ج)
تذكرت عبد الحي الربيع وهو في علياء السماء عند ربه بضحكته المرحة وقلبه الصافي، وبين يدي كتاب مجلة العربي الذي لم يفارقني، لأنني وجدت في صفحاته عطر السنوات اللائي خلون، فقد تزاملنا مع الشهيد من المرحلة الابتدائية حتى الجامعة، صورة ونسخة واحدة من خلق وفضائل وكرم ونقاء روح لم يتغير، وأظنه كذلك وهو عند مليك مقتدر، كانت الحياة تجدف بنا وراياتها تخفق فوقنا، ولم نكن نتصور أن تلك القصاصات والحروف الوضيئة والرسم التشكيلي للطيور والطبيعة والوجوه على صفحات المجلات، والقصائد التي نختزنها في عقولنا وقلوبنا البريئة، هي التي تكون الزاد في السفر الطويل وهي المهنة التي تجري في دمائنا، والروح التي تسري في أوصالنا ..!
لم نكن نعلم أن المجلات وأدوات الثقافة العربية التي ازدهرت في تلك الفترة ووجدنا بعضاً منها في شبيبتها، هي التي تلهمنا الطريق والسبيل إلى الغايات الرقراقة كصفحة ماء ..
تلك الأماني أرق في تألقها من آمال القلب عند شاعرنا الكبير مبارك المغربي في قصيدته التي نشرتها مجلة العربي في العام 1981م، وكانت تشبه لنا في جرسها وإيقاعها قصيدة الحصري القيرواني (يا ليل الصب متى غده) ؟!
يقول مبارك :
آمال القلب .. أمانيه
حياك هواه فحييه ما زال خيالك يؤنسه
مذ جئت بسحرك تغريه
أعجابك زاد تعلقه
ليزيد هموم لياليه
يا ذات الخال وحسنك لا
يحتاج سناه لتشبيه
سللت مفاتنه نغماً
لك لا لسواك أُغنيّه
قد صاغ النيل شوارده
ورواه أنين سواقيه
من لي بك بين خمائله
والشط تّشُوقُ مرائيه
والصبح يرتل في طرب
لحنا سكبته شواديه
وخطاك ملاحن ناغمة
تروي المشتاق وتُشجيه
والنسمة تسري هامسة
وتداعب شعرك في تيه
فأصوغ جمالك أغنية
هي أروع ما قالوا فيه
يا أخت الفجر وبي شغف
شغف الظمآن لساقيه
إن كنت سأرحل عنك غداً
والقلب حليف تمنيه
حسبي إعجابك يشفع لي
حباً كم كنت أداريه
حباً كالروح يلازمني
هيهات لغيرك أحكيه
أشفاء القلب وعلته
والصب يحن لآسيه
تيهي بشبابك تاركة
آمال محبك في تيه ..!!