ونحن في زمان كثر فيه القيل والقال وتلاطمت فيه الفتن كتلاطم الموج وانتشرت وسائل الفساد والملهيات والمغريات وكثر التأثر بأهل الشر وتقليدهم – وتاه كثيرون وكثيرات وغابوا عن عظيم الأخلاق – تعظم الحاجة إلى التذكير بقرب الرحيل .. للتزود للسفر الطويل .. فأعيد نشر هذه الذكرى قائلاً:
كلنا سنرحل من هذه الدنيا .. وسنلقى المصير الذي لقيه من قبلنا ..
سنغادر هذه الحياة ونفارق الأحبة .. وننتقل إلى دار البرزخ إلى (القبر) .. وليس لنا أن نفر من ذلك .. وصدق الحق سبحانه وتعالى القائل: (إنك ميت وإنهم ميتون).. والقائل: (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد) والقائل: (أينما تكونوا يدرككم الموت) .. وهذه الحقيقة هي أمر معلوم .. والنفس البشرية باختلاف أديانها وأعمارها وثقافاتها تدرك ذلك .. بل إن الأطفال الذين لم يصلوا سن التمييز على دراية بحتمية هذا الأمر .. فإننا سنلقى هذا المصير في العاجل أو الآجل ..
فسبحان القوي الذي نفذ أمره .. وتبارك من لا يرد قضاؤه .. وسبحان القاهر الذي لا ينقض حكمه..
والبشر يتساوون في هذه الحقيقة.. فكلنا حتماً مقضياً سنموت..
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوماً على آلة حدباء محمول
ولكن الفرق بين بني آدم في هذا الرحيل المؤكد، أنهم قد تباينوا في مستقبلهم بعد هذا الرحيل وفي آثارهم التي تركوها بعد هذا الرحيل ..(إن سعيكم لشتى)
عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه قال قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم: « يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلاَثَةٌ فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى وَاحِدٌ يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَيَبْقَى عَمَلُهُ» متفق عليه.
إن العمل الذي يعمله الإنسان في هذه الدنيا هو الذي سيخرج به منها، وهو الذي سيكون سبباً في حياته البرزخية في قبره وحفرته ثم حياته الأخروية..
فإذا كان العمل هو الذي سنخرج به من هذه الدنيا فحري بنا أن نجتهد وأن نكثر من أعمالنا الصالحة التي هي السبب لأن يرحمنا الله تعالى ونحن بأشد الحاجة إلى ذلك في ظلمة تلك الحفرة الموحشة، حيث لا قريب ولا حبيب أو صديق ..
في ظلمة القبر لا أمٌ هناك ولا أب شفيق ولا أخ يؤنسني
هنيئاً لأهل الإيمان وطاعة الرحمن بهذا الوعد الذي ينتظرهم من الكريم الرحمن، والذي قد بشرهم به سيد ولد عدنان عليه الصلاة والسلام حيث قال:
(إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة حتى يجلسوا منه مد البصر ثم يجيء ملك الموت عليه السلام حتى يجلس عند رأسه فيقول أيتها النفس الطيبة أخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان قال فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من السقاء فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض قال فيصعدون بها فلا يمرون يعنى بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا ما هذا الروح الطيب فيقولون فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا فيستفتحون له فيفتح لهم فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى ينتهي به إلى السماء السابعة فيقول الله عز وجل اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوه إلى الأرض فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى قال فتعاد روحه في جسده……) الحديث وهو حديث صحيح رواه الإمام أحمد وغيره.
فمن حفظ الله حفظه الله (احفظ الله يحفظك) .. ومن ذكر الله ذكره الله (فاذكروني أذكركم) وفي المقابل فإن من نسي الله نسيه الله (نسوا الله فنسيهم) (نسوا الله فأنساهم أنفسهم) .. والجزاء من جنس العمل .. ولا يظلم ربك أحداً .. بل إنه يحسن الجزاء ويضاعف الأجر (وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً وأعظم أجراً) ..
وهذه الحقيقة الثابتة الراسخة يوجب العلم بها أن نجتهد غاية وسعنا وأن نبذل كل طاقتنا لأن نترك ــ قبل رحيلنا ــ آثاراً طيبة، يطيب بها ذكرنا من بعدنا، ويأتينا في قبورنا حسنات تترتب عليها.. قال نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام : «مَنْ سَنَّ فِى الإِسْلاَمِ سُنَّةً حَسَنَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا وَلاَ يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَىْءٌ وَمَنْ سَنَّ فِى الإِسْلاَمِ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كُتِبَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا وَلاَ يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَىْءٌ » رواه مسلم وغيره.
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، منها حديث من دعا إلى هدى … ومن دعا إلى ضلالة … ومنها الحديث الصحيح المشهور في إفادة انقطاع العمل بالموت إلا من ثلاث: علم ينتفع به أو صدقة جارية أو ولد صالح يدعو له..
وتاريخ هذه الأمة العظيمة يزخر بالنماذج المشرقة في حياتها العملية، والكتب ثريّة بالوصايا الكريمة العظيمة، والتوجيهات الصادقة المؤثرة في الحث على الاجتهاد في هذا الأمر، والحاجة ماسة لأن تنشر الآثار المباركة التي اجتهد العلماء والعباد والصالحون في هذه الأمة في تحقيقها وتركوها من بعدهم، وحتى لا تنقطع أعمالهم بفراقهم الدنيا وقد أدركوا أن أيامهم وساعاتهم فيها قليلة!!
وهذا من الزاد الذي أمر الله عباده المؤمنين بالحرص عليه، فقد قال الله تعالى في آخر آيات الحج من سورة البقرة: (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب) .. وختم الله تعالى الآية بمخاطبة (أولي الألباب) وبذلك نعلم أن أولي الألباب وأصحاب العقول السليمة الصحيحة هم من يوفقون إلى استثمار أيامهم في التزود بالإيمان والأعمال الصالحة ..
فهنيئاً ثم هنيئاً لكل من رحل عن الدنيا وقد وفق في سيره بها إلى الإيمان بالله تعالى والأعمال الصالحة والبعد عن كل ما يغضب الله تعالى.. فإن التوفيق كل التوفيق أن يوفق العبد لأداء ما خلق لأجله، وهو حقيقة الاستخلاف في الأرض.. القيام بعبادة الله وطاعته والسير على الصراط المستقيم ..